حرّيّة البناء وتنوّع الفضاء التّشكيليّ في لوحات الفنّان كاظم حيدر

أمل بورتر

(نتاج خبرة طويلة مقترنة بجمالية الفن والحرفية المتميزة مع شحنة هائلة من طاقات الخيال)

   وأنا صبيّة صغيرة في الصف الأول/الثاني المتوسط في الثانوية الشرقية للبنات في الكرادة التي صفوفها من الأول المتوسط إلى الخامس الثانوي تعددت هواياتي -ومنها الرسم – ونشطت مشاركتي برسومي ونتاجاتي الحرفية اليدوية في معارض المدرسة السنوية. لم أعرف الكثير عن الرسم سوى ما أراه أمامي لأرسمه وما أنقل من الكتب والمجلات العربية والإنجليزية التي تكثر في بيتنا وما تكلّفنا به مدرّسة الرسم، وهي رسامة فلسطينية الأصل، كواجب مدرسي

بالصدفة ذهبت مع شقيقاتي وصديقاتهنَّ صحبة مدرّستي إلى النادي الأولمبي في الأعظمية لحضور معرض للرسم، نحن -بنات الكرادة- كان حلمنا وتطلعاتنا أن تكون لنا في الكرّادة أجواء الأعظمية الاجتماعية/الثقافية المتفتحة. كان هناك عدد من اللوحات لمجموعة من الفنانين منهم فائق حسن وإسماعيل الشيخلي وعطا صبري. لفتت انتباه مدرّستي وشقيقاتي لوحة لكاظم حيدر، وقفنا كلنا قبالتها طويلاً، كانت تمثل مجموعة من عمّال الأجرة ومعهم طفل يقفون كلّهم في صف واحد قبالة المتلقي، الطفل يبدو كعامل كذلك، هؤلاء العمال كان معهم كل ما يلزمهم من عُدَد ليومهم الطويل الشاق. أتذكّر تعليقات شقيقاتي ومدرّسة الرسم عن شجاعة هذا الرسام وهو يرسم عمّالاً ويقدّمهم بطريقته “المختلفة” في الرسم

وتمرُّ الأيام وأقرّر فجأة أن لا أكمل الدراسة الثانوية وأكتفي بشهادة الثالث المتوسط ثم التحق بقسم الرسم في معهد الفنون الجميلة وهو المعهد الذي تخرّج فيه خالي لويس زنبقة ثمَّ عمل فيه أستاذاً للموسيقى. كان القرار نوعاً من التحدي وقد أسّست حياتي وفقاً له.

 كنّا حينها سبع طالبات وما يقرب من ثلاثمائة طالب في معهد الفنون الجميلة بفروعه جميعها. غدا المعهد زهوَنا وملاذنا وفيه عرفنا الفن كما يجب أن يكون. تنوعت الدراسة وعرفت حينها -لحدٍّ ما- لمَ كانت لوحة كاظم حيدر -كما وصفتها معلمتي- مختلفة.

لا يمكن اليوم تفسير ذلك للمتلقي دون استعراض ما كان على أرض الواقع من قلة المعرفة بالفنون ونتاجاتها في العراق. إنّ أغلب المتلقين خصوصاً رواد المعارض، وهم طبقة واعية فنياً واجتماعياً إلى حد ما، لم تتميز أفكارهم بموسوعية المعلومة التشكيلية عن النتاجات الفنية المتطورة في أوربا وبقية الدول المتقدمة صناعياً وثقافياً ربما لعدم انفتاح المجتمع عليها فقد كان هناك عدد قليل من الرعيل الأول في العشرينيات الذين تخرجوا من المدرسة العسكرية العثمانية في إسطنبول تعاطوا الفن في مجتمع مغلق وبنشاط محدود، وفي نهاية الثلاثينيات عاد عدد قليل جداً من الدراسة في أوروبا وعاد قسم آخر في الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية. هنا يجب الإشارة إلى دور رجال الجيش البولونيين الذين ساهموا في الحرب العالمية الثانية ممن عسكروا في بغداد. لقد كانت عندهم اهتمامات وقابليات فنية ومعلومات ثرَّة وكانوا على وعي بمراحل
التطور المتسارع في الفنون والآداب في أوروبا وعرفوا أنَّ المدارس المتنوعة كانت تسعى في غربلة الأجواء الفنية والأدبية التقليدية وتغييرها وقلب مفاهيم المجتمع الأوربي العتيقة. أما في العراق فلا بدَّ من الإشارة إلى شحّة الكتب الأجنبية التي قلما كانت تصل من أوروبا فضلاً عن ندرة الكتب العربية و التراجم بسبب الحرب. ولا بدَّ من ذكر فقر الصحافة المحلية العراقية في الموضوعات الفنية. 

  في الخمسينيات عاد بعض ممّن أكملوا دراستهم في أوروبا واطلعوا على أفكار المدارس الجديدة في الفن والأدب والفلسفة التي ترسخت مفاهيمها هناك وأصبح لها الكثير من المريدين والمهتمين والمنظّرين، من هذه المدارس الدادائية والسوريالية وما أطلق عليه الـ Ready made وغيرها الكثير وقد رافقتها صور جديدة بعيدة عن فكر جوهر الفن وأصله  كنافورة دوشامب  والأتمتة في الكتابة ليتحول مفهموم الفن من(الصنعة إلى اللعب) كما يقول الفيلسوف “كانت”. أخذت التراجم والكتب تغزو الأسواق مما شجع الكثيرين على المناقشة والتتبع لما يدور في عوالم الأدب والفن والفلسفة. حفّز هذا كلّه الشباب العراقي المتطلع لخوض معترك فن جدي جديد حديث بعيد عمّا كان متعارفاً عليه ثمَّ أخذ الوعي ينمو ويتشكل في محيط المجتمع الضيق حتى وصل في نهاية الخمسينيات وفي الستينيات وما بعدها إلى ظهور تجمعات فنية لها كيانها وبياناتها وصيغها التي تبنّتها كخط واضح لمسار نتاجاتها الفنية

لذا “فلعب” كاظم حيدر أو نتاجه الفني في أواسط الخمسينيات كان سبباً في حيرة المتلقي ودهشته وقد وصل هذا أحياناً إلى حد السلبية، فلم يستطع المتلقي والمجتمع أن يحدد التقييمات التي كانت تنضوي تحتها أعماله ولم يكن من الممكن أن يغلف هذا الإنتاج بواقعية ومخملية انطباعية وبنفَس رومانسي من عطا صبري كما كان واضحاً في لوحاته المتكررة عن حديقة داره في الوزيرية وتخطيطاته الواقعية القوية أو جدية جواد سليم بسبره أغوار مدرسة بغداد للتزويق للواسطي في القرن السابع الهجري ونجاحه في تقديم قراءة مختلفة لحاضر المجتمع الذي يعيشه أو شفافية وواقعية حداثوية لوحات إسماعيل الشيخلي بلمسة ضئيلة جداً للألوان التي تدنو من الرومانسية ثم تبتعد عنها كثيراً وهي تغطي خيمه وفرسانه وشخوصه -حتى الأنثوية- بأشكالها المستطالة الهندسية. أدى ذلك إلى ضياع المتلقي في لوحات كاظم حيدر التي اعتمدت البناء المعماري للأجساد والاشكال الهندسية المتنوعة والبياض أو الفراغ أو الفضاء داخل نص المفردة التشكيلية أو خارجه “كشكل هندسي” به لمحات تكعيبية أو غيرها من مفردات كالإنسان والحيوان. هنا تاه الكثيرون ممن اهتموا بزيارة المعارض محدودة العدد أصلاً ولم يستطيعوا أن يخمنوا أين يتموضع نص لوحة كاظم حيدروكيف يستكشف و تحت أي راية فنية أو اجتماعية أو آيدلوجية أو واقعية يقع، وقوبلت أعماله بالدهشة والاستغراب والحذر الشديد والتساؤل ثم الحيرة والارتباك لاستثنائية الغة التشكيلية وازدواجيتها بل تعدديتها والحرية التي نُفِّذ العمل بها فقد كان ما يرسمه بشكل مغاير للمتعارف عليه.

  أصبحت مرحلة الستينيات في العراق محورية وواضحة المعالم في صياغة الفنان نتاجاته ومعرفته موقعها وسبل سيره وكانت تشغل الحيز الكبير من الزخم وقام جدار واضح بين الماضي التقليدي والجديد المثير مثلما عملت الدادائية الغاضبة الناقمة التي أسست لنهاية الأعمال الفنية في أوروبا والسوريالية التي دعت إلى انبعاث الفنون برداء آخر جذّاب مختلف تضيع فيه الكثير من القيم التي يجب أن تندثر ورافقتها التجريدية بحماس وشجاعة وأسست لفكر حداثي بالألوان والخطوط والمساحات فقط وأُنتج عمل “مختلف” ولا بدَّ أنَّ تلك الرسائل الفنية بقوة إيقاعاتها وتباعداتها وصلت كاظم حيدر وبدت واضحة في نتاجاته.

 بعد عودة كاظم حيدر من دراسة الديكور المسرحي ومواد فنية أخرى في بريطانيا تعززت ثقته بالنفس وتشبع بأفكار نهضوية جديدة فطوّر أفكاره السابقة وأخذ ينفّذ أعماله بصيغ تؤثَّث بوضوح وجدية وكثير من الإصرار لبناء لوحة تشكيلية ببعد مسرحي مدعوم بهيكل معماري واضح، يبدو ذلك من أساسها إلى تفاصيلها من إضاءة ونور وتنوع في الحركة مع تمحور البناء في الركائز القوية للوحدة التشكيلية التي تبدو مرتكزة بقوة على سطح اللوحة وموزعة في أركانها بدقة وحذق ورهافة وحيوية ، بكل بوضوح وجدية، وأظهر الفراغ أو الفضاء فيها قوته و سيطرته أحياناً فتزاوج هنا تمسرُح اللوحة ببناء معماريتها إذ جعل منطوقها مسرحية كاملة ببطلها ورمزها بأي صيغة آدمية أو غيرها سواء  أكان شهيداً أوعاملاً أو من التراث بسحنة وهيئة أكدية آشورية أو بابلية بقرون أو عضلات كلكامشية. كما أنَّه بعلانية مطلقة جعل لوحته تتحدث بلغة البناء المعماري متكامل الأركان من الأساس إلى الأقواس وبتطبيقاتها من التراث متعدد الأصول والصيغ التي نجدها بين قوائم الخيول أو في حدود الرايات أو حافات الفراغات، ولهذا لم تصنف أعمال كاظم حيدر في مرجعية واحدة محددة. ويبقى التساؤل مشروعاً قائماً عن مدارس/ مرجعيات كاظم حيدر الفنية لأعماله وهل هناك حالات من التّناصّ أو التّماهي فيما بين الرايات والأقواس وفضاءات اللوحات وبقية رموزها قد تعزز عدم مألوفيتها؟

 أعطى كاظم حيدر أهمية كبيرة للفضاءات الملونة الواقعة أحياناً وسط المفردة التشكيلية أو حولها أغلب الأوقات، ورسمها بشكل متفرق مختلف بين المربع وأشكال شبه هندسية متنوعة غير منتظمة ملونة بلون باهت لا يغري تعقبها أخرى بلون أبهت قد يصل إلى اللالون. إنَّ هذا المشهد قد يبدو مجرد نزوة فرشاة خرجت عن سيطرة اليد وتبعت قوة سيطرة الخيال أو قد تبدو عشوائية غير مقصودة أوهي ضربة فرشاة قاسية قوية زاغت عفواً، ولكن كاظم حيدر جعل إصراره واضحاً جلياً على توظيف هذه الضربات فعلى الرّغم من أنها قد تبدو لنا غير مقصودة فقد اختارها بدقة بذلك الحس المسرحي بين الخطوط والتخطيط والضوء واللون والحركة، وسيكون لكل حركة ونقلة موقعها وفقاً لحسابها المقرر معمارياً.
  إنَّ كاظم حيدر يعرض لنا بثقة ووضوح التناسق بين حركة المفردة ومحيطها وفضاءاتها إذ يدور معظمها حول حس تشكيلي متمركز ومتموضع حدد له المكان والزمان والرمز وقاد تلك المعطيات مخيال خصب ممّا أدى إلى هاجس سردي تشكيلي استطاع أن يبينه الفنان في صياغته هذا التداخل بين الفكرة والتنفيذ في أسلوب جمع بين ما هو واقعي يدور على الأرض وما نفذ حسب مقاييس مخيال الفنان وقوة خطوطه ووعيه التام باختيار المفردات التي حددها فنان التزم بمنطوق علم الجمال ولم يزغ عنه.

img_4300

  الملاحم والأساطير وحوادث التاريخ قد تتمثل في مضمون اللوحة وشكلها كحدث مختلف عن أصله وواقعه الأرضي إلّا أنّه قريب جداً من الهيئة المرجوة والمتخيلة عند الفنان. إنَّ المضامين من الأساطير أو الحكايات المدونة جلبت الاهتمام السمعي ولم تتجاوزه إلّا بمحدودية قوامها النطق والصوت، ولكن عند تنفيذها كشكل متّسق منها ومتّسق معها وواقعي بألوانه و خطوطه ومساحاته وشخوصه وبانسياب اللون مع الحركة أو بدونها – آدمية أو غيرها- فإنَّ ذلك يساهم في حصول التماهي في المشهد المؤطّر أمام المتلقّي ويعرض له ما استخلصه الفنان من الحدث أو الحكايا شيئاً معنوياً بصيغة خطوط وألوان تحكي بفيض عن واقع ما جرى حتى لو كان الفنان لا يعايشه في دنياه ولكنه استوعبه روحياً وانعكس ذلك الاستيعاب بوضوح على المتلقي ليتقبل أعمال كاظم حيدر المستقبلية.

  كاظم حيدر على إلمام تام بكيفية التعامل مع الخط واللون والمساحات والكتل بالاقتضاب والاختصار والشّحّة الجميلة الذكية في تنفيذ المفردة بدون تزاحم أو بهرجة لونية استعراضية أو إقحام، و إذا كان النص المرسوم يحتوي الكثير من التفاصيل فكلّها يشكّلها بحذق واسترخاء وقوة ومجابهة وتفهم للكتلة وموازنتها، والشّحّة هنا أعطتها قوة بصرية هائلة جعلت المشاهد يبقى ملتصقاً بالمفردة يحاول فك رموزها على الرغم من بساطتها فهو يصور لنا المسافات بين القوائم والأجساد والرايات كلها منسجمة ضمن بناء فخم تم تركيبه لإضفاء طاقة متناهية الأبعاد قد تصل إلى حد اللامعقول.

  الاختصارأو المبالغة في العضلات وترك مساحات فارغة فيما بينها من خلال التركيز على التشريح الصحيح للعضلات وتحول المئزر الذي يستخدمه الحمّال إلى فضاء في وسط اللوحة، فضاء في وسط جسم الإنسان أو بين عضلاته و جسمه المتكامل، هذه المعطيات كلها ليست إلّا حالة من اللعب بنتاج متطور ينشغل بها الملتقي بقوة محاولاً ربط رموز مخيال الفنان بما قد وقع عليه وعاشه كرموز حكايا القصص الممسرحة والملاحم اليومية أو التاريخية.             

img_4299                                                                         

 

 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply