في الحسِّ وفي الحدس 2

يقظان نعمان ماهر

لوحة دالي، شبح وجه على الساحل ١٩٣٨

رحلتنا بالأمس كانت مخاضاً لولادة أنجبت الحركة الانطباعية التي امتدت قرابة مائة عام ونيف وعبَّدت الطريق وبصمت التجارب الفنية ودمغت المحاولات التي استفزت الفنانين من بعدها فكانت بحق الرائد والموجِّه الأمين لما لحق.

إنَّ التأريخ الفني بمجموعه ما هو إلّا تأريخ صيغ من الإدراك المرئي والطرق المتعددة التي ينظر فيها المرء إلى العالم، يلتقطها الفنان ويسجلها مضيفاً إليها السر في موهبته وذاتيته. وقد يستطيع الفنان أن يستنتج من تأريخ الفن وتحولاته أنَّ الحقيقة ما هي إلّا سراب يستطيع النظر إليه دون الإمساك به، فالطبيعة شيء والفن شيء آخر. وهذا ما حدا بصانع الحركة الفنية الحديثة وعقلها المصمم بول سيزان الفنان الفرنسي الشهير (1839 -–1906) أن يألَف فن المتاحف ويحترم محاولات أسلافه الانسجامَ مع الطبيعة. عُدَّ هذا الفنان مع آخرين غيره أمثال بول كوكان،  رينوار،  فنسنت فان كوخ،  إدورد مانيه،  كلود مونيه،  كوستاف كوربيه،  بازيل  شاكال وتولوز لوتريك،  والقائمة تطول، رواد المدرسة الانطباعية التي  كانت تتحرى الضوء وتأثيراته في العمل الفني. وكانت اللوحة المرآة التي تعكس آفاق الفنان وصداه الناطق. 

كانت الانطباعية غزواً تدريجياً للضوء الذي أضحى يؤلف قاعدة جوهرية في الرسم وكان ميدان فعلها وازدهارها المناظر الطبيعية، وهذا ما قلناه سابقاً: إنَّ الطبيعة هي الأم وهي القيمة التي لا تضاهى وهي الموروث الذي لا يمكن الاستغناء عنه وتبقى موحياتها الأثر الذي لا يمكن تخطيه.

لكن التجربة مع الضوء واللون وتأثيراتهما لم تكن لوحدها القصة التي شكلت الحركة الانطباعية ؛ فقد ولَّدت الدراسات المستفيضة للقوام البشري وللفضاء وللتكوين مشاكل عدَّة كما سعت لإيجاد الحلول الناجعة لها، وكانت ثمرة ذلك نشوء طريقة جديدة لرؤية العالم عززت من جرأتها الموجة التي صاحبتها آنئذ: ذيوع المطبوعات اليابانية وتطور التصوير الفوتوغرافي.

ومن الأمانة أن نقول إنَّ الفضل في ولادة الحركة الانطباعية يعود إلى يوجين بودان الذي استضاف كلود مونيه وكوستاف كوربيه وبودلير وجونكند وعدداً آخر من الشباب الذين فتحوا أعينهم على اللون السحري للضوء والماء وتأثيراتهما المذهلة. إنَّ ما يدهشنا هو التأثير الذي تركه الفنان جونكند، فكل المشاهد الطبيعية القيِّمة التي نراها اليوم أوحى بها ذلك الرسام؛ إنَّها تستعيد أجواءه وسماواته ومرابضه وما من مشهد أكثر وضوحاً من مشاهده . لقد اعترف الفنان إدورد مانيه جهاراً بفضل جونكند، وفي ذلك قال: لقد ولجتُ من الباب الذي فتحه لي جونكند عنوة –بتواضع- إلى مناظر البحرية.

كان الوعي بالمشهد المعاصر آنذاك حاداً وعُدَّ بدعة ثورية في أواسط القرن التاسع عشر، وقد تولد ذلك الوعي نتيجة الإحساس المرهف بالماضي وبمظاهر الحياة الجديدة التي شرعت تزحف على المدينة باطراد وكانت سبباً للثراء الذي رافق التقدم الحضري والصناعي. 

مارس كلود مونيه و رينوار و بازل -أول ما مارسوا- رسم القوام الإنساني في الهواء الطلق بين الأعوام  1865 – 1868 تحت التأثير الطاغي لكوستاف كوربيه و إدوارد مانيه ، وحققوا في البدء مواضيعهم الأولى كرسّامين رومانسيين ثم ضمن مدرسة (الباربيزون) المستقلة، وبقيت غابة فونتنبلو الخلفية المفضلة للتجارب الانطباعية الأولى التي كان رائدها المتحمس كلود مونيه. وبتعاظم حركة الرسم في الهواء الطلق أمسى ظل الشمس طوع بنانهم وهلَّل الانطباعيون للتأثيرات الخلابة التي يمكن استخلاصها من الأشكال الرشيقة والألوان البراقة للنساء المتأنقات في ضوء الشمس الساطع. 

وتفجَّرت الشاعرية في عالم الرسم في لوحة إدوارد مانيه 1860 – 1861 (حفلة موسيقية في قصر التويلري) ولم تكن جرأتها تكمن في اختيار الموضوع بل في الانسيابية الحية لضربات الفرشاة المتناغمة تناغماً كلياً والطريقة الحديثة في الرؤية المتَّسمة بالتلقائية في الاستجابة. لقد عالج مانيه العرق الفني الذي طالما أشار إليه بودلير، وكان الفن الذي جاء بعده وأطلق عليه “الرسم الحديث” في الواقع الرسم الصادق الأمين لذلك العصر.

تعدَّدت المذاهب وتزاحمت الحركات وتباينت الاتجاهات بتباين الأمزجة والثقافات؛ فظهرت المدارس ونشأت التيارات فكانت الانطباعية الجديدة امتداداً متواضعاً للحركة الانطباعية الأمّ.  وجاءت الرمزية فالتنقيطية وحطَّت الوحشية وظهرت التكعيبية فالمستقبلية ثم التعبيرية وتعاقبت المدارس والحركات حتى جاءت السريالية التي تلاقحت أفكارها بالرسم الميتافيزيقي وهيمنت عليها النزعة النفسية المضطربة والعامل الشخصي النرجسي القلق.

كان الفنان الإسباني الشهير سلفادور دالي المولود في العام  1904  العمود المحوري للمدرسة السريالية لما جادت به موهبته وعبقريته؛ كان يتصف ببعض الجنون والجموح المتغطرس والجنوح المطلوب فكانت أعماله، لقدرتها على التعبير والإخراج، مادة لإثارة الرعب ودعوة للشك والريبة.

أُولع السّرياليّون بالتركيز على رعب الموت والحالات الشاذة الصادمة، فأندريه ماسون المولود في العام 1896  يرينا سمكة تُنتزع أحشاؤها من قبل سمكة أخرى وصراعاً للثيران وصراعاً للديكة ومخلوقات عفنة متحللة تحولت أشكالها وفقدت بريقها ورونقها.  وفي أعمال ماكس أرنست المولود عام 1891  نجد غابات متحجِّرة قاسية المعالم موغلة في القدم وكأنَّ الموت قد اقتحمها. وفي أعمال إيف دانكي ( 1900 – 1955 ) نجد إنشاءات تشبه العظام تنبىء عن مشاهد طبيعية غير معقولة،  فهل هذا يدل على صفة الجمال في العمل الفني؟ هنا يترك الحكم للمتلقي بالرفض أو القبول. والذي يجعله مطلوباً في عملية النقد الفني التقنياتُ عاليةُ الدقة التي يحظى بها.

لقد أشار الشاعر أندريه بريتون في الإعلان السريالي الذي صدر عام 1924  في أعقاب ضمور الحركة الدادائية واختفائها، وهي التي عجزت عن جذب الأتْباع بفعل اتجاهها السلبي، أشار إلى الإيحاءات النفسية أكثر من الاهتمام بخلق أعمال فنية تبحث في الفعل اللاإرادي النفسي البحت وتدوين الفكر في غياب أنواع السيطرة التي يمارسها العقل بمعزل عن الاعتبارات الأخلاقية منها والجمالية.

أصبحت السريالية حركة فعالة على الرغم من تفكُّكها في مظاهرها؛ تأتي فائدتها من تعاون أفرادها المثقفين منهم والآخرين من ذوي النفوذ، وكان أندريه بريتون يرفض أن يشار له (بالقائد لها/قائدها) لأنَّ مفهوم القيادة يتضارب مع جوهر مذهب حرية العقيدة السريالية؛ إنَّ بريتون هو الذي نقل الحركة الجديدة من مرحلة الدادائية إلى مرحلة السريالية. 

 هكذا تظهر الحركات، تنمو  ثمّ تضمر وتختفي بفعل حركة التأريخ وحتمية التطور. 

 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply