كروان الإذاعة العراقيّة ” كلادس يوسف”

كلاليب يوسف

في ضيافة همس الحوار مع الدكتور خالد القيسي

ضمَّ جهاز الإذاعة والتلفزيون العراقي بين حناياه منذ تأسيسه المبكر عربياً وشرق أوسطياً نخبة من المذيعين والمذيعات ومقدِّمي البرامج والنشرات الإخبارية من أعلى المستويات، تمتَّع معظمهم بالصوت الجميل وبالخامات العذبة المريحة للأذن مشفوعة بإتقان قواعد اللغة العربية وقوة الشخصية ودوام التجدد والإبهار النابع من عشق المهنة، وتعد المذيعة العراقية القديرة كلادس يوسف واحدة من هؤلاء الرواد الذين عملوا بتفانٍ غير محدود وبجد ومثابرة لتطوير مهاراتهم وتنمية قدراتهم وصقل مواهبهم الإلقائية والصوتية فصاروا قامة وقيمة تستذكرهم الأجيال بكل خير وتتتبع أخبارهم في كل مكان. وها نحن نحط رحالنا عندها في حوار مفتوح ماتع لا يخلو من الصراحة، نزولاً عند رغبة القراء الكرام. سألناها: 

س ١: ماذا تقرأ بطاقتك الشخصية؟

* الإذاعة والتلفزيون، كلادس يوسف، رئيس مذيعين أقدم.

س ٢: رشَّحك العلّامة الدكتور مصطفى جواد لقراءة برنامجه (رياض الأدب)، حدِّثينا عن ذلك قليلاً .

*كنت أعتز بهذا البرنامج جداً وقد رشحني له العلّامة الدكتور مصطفى جواد، وكان من إعداده ، والحق يقال لقد كانت لغة البرنامج صعبة إلا أن الدكتور كان يبسِّطها ويشرحها لي، لذا كان لهذا البرنامج فضل كبير عليَّ في تطوير لغتي وتعلم مفردات لا تستعمل دائماً في حياتنا اليومية وكنت فخورة بالعمل مع الدكتور جواد.

كان يحلو للدكتور الجلوس في غرفتنا -غرفة المذيعين- كلما تسنى له ذلك وكنّا جميعاً نحبّه لظرفه ونقائه ونتبادل معه أطراف الحديث، كان يضحك ويقول لي: “ابنتك الآن صرخة وعندما تكبر تصبح همسة”. 

س ٣ : لقّبك المستمعون بـ (الكروان) وقيل إنَّ بعضهم كان يراهن على عدم وقوع كلادس يوسف في أي خطأ لغـــــوي خلال البث المباشر، هل هذا صحيح؟

*مهما كان رأي المستمعين فإنَّني أحني رأسي إجلالاً لآرائهم وأنا ممتنة لهم على هذا اللقب، وفعلاً كان هذا صحيحاً حتى أنَّ الدكتور عبد اللطيف الكمالي المدير العام للإذاعة والتلفزيون في ذلك الوقت كان قد وضع غرامة على كل خطأ لغوي يقع فيه المذيع، وقال لي مرةً: ” كلادس لازم أصيدج (أصطادك) لأن بقيت بس أنت ما تغرَّمت” ولكن لم أتغرَّم وأشكر ربي على ذلك . 

س4: دخولك إلى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون العراقيـــة حجز لك مقعداً متميزاً في صفوف المذيعات والمذيعــين العراقيــين لأكثر من أربعين عاماً فكان نقطة تحول في حياتك، ماذا تسجِّل ذاكرتك عن تلكم الأيام؟

*نعم دخلت الإذاعة في خريف ١٩٥٦ في شهر أيلول. كانت إذاعة الشرق الأدنى من أنجح الإذاعات في ذلك الحين ومن خبرائها الفطاحل (الأستاذ عبد المجيد أبو لبن ) و(الأستاذ صبحي أبو لغد) وقد أسهما إسهاماً فعالاً في تأسيس معظم الإذاعات العربية وتفعيلها، أما دار الإذاعة العراقية، كما كانت تسمَّى، فقد تعاقدتْ معهما فحضرا للإشراف على برامجها وقاما بدايةً بتدريبنا بعد أن خُصِّصت لهذا الغرض بناية قريبة من الإذاعة قرب السفارة الإيرانية في كرادة مريم. كنا يومها أربع متدربات وبيننا الكاتبة الراحلة (سميرة عزام ) التي كانت تُعِدُّ وتقدِّم واحداً من أنجح البرامج هو (تحية الصباح). كان التدريب دقيقاً وشاملاً وممتعاً فلهؤلاء الخبراء طريقة رائعة في إيصال معلوماتهم تدريجياً وعلى مراحل سادها التأني وطول البال، ولم تكن تخلو من الظرافة والشفافية. أبهرتني معلوماتهم وكنت متحمسة لاستيعاب نصائحهم وتوجيهاتهم، كانوا يسجلون أصواتنا ويحللون لنا أخطاءنا في النحو والصرف ونطق مخارج الحروف، ولم يتوقف التدريب عند هذا الحد بل تعداه إلى دورات الريبورتاج ودورات تحرير الأخبار وصياغة الخبر وتأثيره الإيجابي في مخاطبة المستمع الكريم وإلى غير ذلك من الفنون الإذاعية التي يحتاجها المذيع الناجح .

أذكر أنَّ مسؤول تحرير الأخبار في إذاعة (BBC اللندنية) -وعذراً لأنني لا أتذكر اسمه- استُقدم من بريطانيا ليلقي علينا محاضرة طويلة لم نشعر خلالها بمرور الوقت لما فيها من متعة وفائدة، وخلال المحاضرة ضرب لنا مثلاً عن صياغة الخبر: بثّت إذاعة لندن خبراً فحواه أنَّ المرور توقف في شارع أكسفورد ساعةً ونصف الساعة لإنقاذ قطَّة من حريق شبَّ في الطابق الخامس في إحدى البنايات، وكاد الحريق أن يودي بها لولا وصول سيارات الإطفاء، وقد هرع رجال الإطفاء لإنقاذ القطّة بكل بسالة، ومما قاله المحاضر إنَّ خبراً كهذا له مغزى ومعنى أبعد من توقف المرور في الشارع الفلاني، فالهدف الحقيقي الإشارة إلى حضارة هذا الشعب ونزعته الإنسانية التي جعلته يدفع بهذه التعزيزات كلّها لإنقاذ حيوان 

صغير!

أما البرامج الإذاعية وطريقة إعدادها وكتابتها وقراءتها فكانت من الموضوعات التي نالت دراسة وبحثاً فكل برنامج له وسائله وطرق كتابته وصياغته وطرحه، فالبرنامج السياسي يختلف عن البرنامج الاجتماعي، وهذا بالطبع يختلف عن برامج المرأة والطفل وبرامج التنمية.

الكل أجمع يومها على أنَّ نبرات صوتي تلائم الفترة الصباحية، من رؤساء قسم المذيعين إلى المدراء و وزراء الثقافة والإعلام، كنت أحضر إلى دار الإذاعة والتلفزيون بسيارة الإذاعة الساعة الخامسة صباحاً بعدما نمر بطريقنا ونجمع الصحف من مصادرها، كان افتتاح الإذاعة في الخامسة وخمس وعشرين دقيقة، وفي الخامسة والنصف تبدأ تلاوة القرآن الكريم، وكنت أمهد لذلك بقراءة دعاء أو آية من آيات كتاب الله، وأصبِّح على المستمعين متمنية لهم جميعاً يوماً جميلاً سعيداً بإذنه تعالى.

واستمريت على الدوام الصباحي سنوات طويلة، كنا نسجل جريدة الصباح كي تذاع في السابعة والنصف تماماً وبعدها مجموعة من أغاني فيروز حتى الساعة الثامنة.

س 5 : ما هي مؤاخذاتكم على مقدمي ومذيعي الجيل الحالي وما السبيل لإعادة الصورة البهية للمذيع العراقي؟

*أقول لزملائي الشباب إنَّ اللغة العربية سلم موسيقي متكامل ومن يعزف عليه بمهارة يحصل على نغم عذب يطرب القلوب قبل الآذان، وأؤكد على عدم تجاهل موضع وصل الهمزة لأنها تجعل الإلقاء سلساً وجميلاً على النقيض من عدم الالتزام بها وقطعها بدل وصلها فإنَّه يشوه الإلقاء ويقضي على السياق، وأتمنى لهم النجاح والتوفيق والتقدم، وليكن الله معكم.

س 6 : من صاحب الفضل عليك في اكتشاف موهبتك وكيف استطعت دخول عالم الشاشة الصغيرة؟

* الجميع، كل من وجهني أو أعطاني معلومة وكل من شجعني ودفعني إلى الأمام في عملي. أما عن دخول عالم الشاشة الصغيرة فلقد عرض عليَّ كثيراً لكنَّ ظروفي العائلية لم تكن تساعدني إذ كان أطفالي بحاجة لي، وعندما تسنَّم الأستاذ والشاعر الكبير حميد سعيد منصب المدير العام للإذاعة والتلفزيون طلب مشاركتي في قراءة الأخبار في التلفزيون وكان يشجعني بشكل لا مثيل له لذا أبعث له محبتي واحترامي وتحياتي أينما كان متمنية له الصحة والعافية والتقدم والتوفيق والنجاح دوماً.

س 7: ما هي الشروط الواجب توفرها في المذيع سواء في الإذاعة أو في التلفزيون؟

*الشرط الذي يتقدّم على كل شيء الثقة بالنفس ثم حب العمل لأنَّ عشق العمل هو ما يدفع المذيع إلى الأمام، وأن يتمتع بصوت مقبول، وأن يتدرب ويجتهد ويسعى إلى الهدف الذي عليه أن يضعه أمامه، وأن يصعد السلم ببطء وتؤدة ليبني الأسس القوية الصحيحة.

س8 : كيف يتمكَّن المذيع من تطوير مهارته في الإلقاء وصقل الصوت مصحوباً بتطوير الأداء؟ 

* التدريب ثم التدريب ثم التدريب، والاجتهاد والاستماع المستمر للإذاعات.

س9 : ما هو الانطباع الذي تركتِه لدى الآخرين عند ظهورك للمرة الأولى في التلفاز وبعد مغادرتك؟

* جواب هذا السؤال ليس عندي فهو منوط بالمستمع أو المشاهد، أتمنى أن ينصفوني.

س 10: هل من مواقف طريفة أو محرجة صادفتك أثناء العمل التلفزيوني؟ نودُّ أن تسلِّطي الضوء على بعضها.

*الموقف المحرج حصل لي في الإذاعة، وللمطر معي حكاية فلا أكاد أسمع نقرات المطر على شباكي حتى تعود بي الذاكرة ويتجسد أمامي ذلك اليوم الذي لا أظن أني سأنساه أبداً. حدث الأمر في بداية الستينيات حينما كانت الإذاعة تفتقر إلى قسم تحرير الأخبار واستلامها عبر الأجهزة والتقنيات الحديثة كما هو الحال عليه اليوم لأن هذا القسم يحتاج إلى قاعات واسعة وأجهزة ومعدات لم تكن تستوعبها بناية الإذاعة والتلفزيون فضلاً عن كادر كفء ومهيأ للقيام بمثل هذا العمل الإعلامي الدقيق والمهم، والأخبار -كما تعلمون- عصب وسائل الإعلام جميعها.

لم تكن دار الإذاعة والتلفزيون، هذا كان اسمها في ذلك الزمان، تملك سوى بناية صغيرة في الصالحية قرب الجسر الذي يربطها بشارع الرشيد (حافظ القاضي) والكادر لا يتجاوز أربعمائة من الموظفين وكان التلفزيون بناية صغيرة من طابق واحد (بنكلة، كما يسميها العامة عندنا) وقد بدأ بثه حديثاً بالأسود والأبيض في )استوديو( واحد فقط للأخباروالمنوعات والبرامج. 

كانت نشرة الأخبار تهيأ وتحرر في وكالة الأنباء العراقية التي كانت تبعد عن مبنى الإذاعة والتلفزيون قرابة ست أو سبع دقائق مشياً على الأقدام، ويوصلها المراسلون لنا قبل دقائق من موعد إذاعتها، وعندما ينهمر المطر يخبئ المراسل النشرة تحت معطفه خوفاً عليها من البلل. ما حصل في ذلك اليوم لم يكن عادياً فقد كنت أنتظر نشرة أخبار الساعة الثامنة مساءً وهي النشرة الرابعة ولها أهمية خاصة لأنها نشرة شاملة تبدأ بالأخبار الرسمية المهمة وقرارات الدولة وتنتهي بنشرة الأنواء الجوية والصيدليات الخافرة لتلك الليلة.

كان الوقت قد أدركني وأنا أنتظر الأخبار بفارغ الصبر ومن بعيد لمحت المراسل مسرعاً وحاله لا تسر عدوّاً ولا صديقاً كما يقولون، وكانت ملابسه و نشرته التي يحملها في حالة مزرية فالأوحال تغطي معظم صفحاتها والبلل يكاد يمحو معظم حروفها وكلماتها فمراسلنا المسكين، لسوء حظه وحظي، انزلق وسقط أرضاً في ماء المطر والأوحال. أصبت بالدوار وأنا أستلم منه النشرة البائسة ولم يتبقَّ وقت للتفكير فقد بدأ رنين دقات الساعة يصمُّ الآذان، وللحق أقول لقد زلزل ذلك الرنين كياني… كيف سأجتاز هذه المحنة؟ عرض عليَّ زميل أن يجلس معي في الاستوديو ليقوم على الأقل بمسح الصفحات من الوحل فاعتذرت منه وشكرته إذ لم أشأ أن يتشتت تركيزي، أغلقت باب الأستوديو ودعوت الله القدير من أعماق قلبي أن يساعدني في هذه المحنة.

خلال الإشارة الموسيقية أطلعت على الموجز والخبر الأول ثم بدأت أفرز أوراق النشرة بحذر شديد خوفاً من التّمزُّق، بعد الموجز أخذت أمسح الصفحات بمنديلي الواحدة بعد الآخرى وأقرأ خبراً بعد آخر واستطعت تلافي بعض الكلمات الممحوة بزيادة كلمات تنسجم مع سياق الخبر دون أن أتوقف أو أتلكَّأ ولو للحظة. مرت الحادثة بسلام والفضل لله ولم أصدق نفسي. عندما رفعت رأسي شاهدت مجموعة من الفنيين والمذيعين الأعزاء عبر النافذة الزجاجية التي تفصل بيني وبين الرقابة الرئيسة (الكونترول) كانوا قد حبسوا أنفاسهم متعاطفين معي في ذلك الموقف الحرج، عند ذلك انهمرت دموعي لهذا الود والتكاتف والتعاون الذي كان يجمعنا وكأننا عائلة واحدة. أين تلك الأيام والزمن الجميل يا إلهي؟ لن أنسى هذا الموقف الذي هزَّني هِزَّةً لا أحسد عليها.

س 11: أطلعينا لطفاً على أبرز الجوائز وأهم الألقاب التي حصلت عليها خلال مسيرتك الطويلة .

*التكريمات كثيرة حتى أنّي لا أتذكرها كلها. أذكر من أهمّها واحداً كان عن كتابة نص عن فلسطين والنص الذي كتبته كان بعنوان (ضمائر بيعت في الأسواق)، وكُرِّمتُ على برنامج (رجل لا ينام )، وكُرِّمتُ مرات عدة من قبل منظمات تهتم بشؤون الأسرة والمرأة ومن مجلة المرأة على برنامج الأسرة الذي قدمته مدة عشرين عاماً، كما كُرِّمتُ في برلين (ألمانيا) على برنامج عن نهضة العراق قدَّمتُه من تلفزيون برلين، وطُرِح برنامج (ربع ساعة للمذيع) للمسابقة وفزت بالمرتبة الأولى. في كل سنة في عيد تأسيس الإذاعة كنت أكرَّم من قبل الإدارة، وكانت من  أجمل الدروع تلك المحفورة على معدن لامع وبكلمات وأسلوب راق، ودِدْتَ لو أعرضها لكم لكن سرقها اللصوص الذين استولوا على بيتنا أثناء سفرنا إلى عمان مع الأسف الشديد. 

وفي دعوة خاصة من المركز الثقافي العراقي في واشنطن كُرِّمتُ كذلك، وكرَّمني رئيس المركز الثقافي العراقي ومجموعة من مثقَّفي وشعراء كاليفورنيا بحضور السفير العراقي في واشنطن وكان الاحتفال في(لوس أنجلس) .

س12 : أنت عضوة في هيئة تحرير “مجلة الحقيقة” الصادرة في ولاية ميشيغان، هل هذه المجلة ثقافية أم اجتماعية، شهرية أم دورية؟ نرجو من جنابك الكريم أن تحدثينا بشأنها قليلاً. 

*المجلة ثقافية واجتماعية شهرية يكتب فيها خيرة الكتَّاب والمفكّرين. أحترم هذه المجلة وأحترم رئيس تحريرها الأستاذ (توفيق سلمو) وأعدُّها من أفضل المجلات التي تصدر باللغة العربية ونستطيع من خلالها الإطلاع على أخبار الجالية قاطبة من الألف إلى الياء، وقد انقطعتُ عن الكتابة فيها بسبب ظروفي الصحية.

س13 : وماذا عن الجمعية ومجلتها الشهرية التي توزَّع مجاناً في سان دييغو ولوس أنجلوس؟

*اسم الجمعية (الصداقة العراقية الأميركية بين الشعوب) واسم المجلة (الصداقة) وقد كنت عضوة في هذه الجمعية ومشرفة على المجلة وهي مجلة شاملة.

السّيّدة كلادس يوسف، كانت رحلتنا شائقة مفيدة مثلما كانت رحلتك مع الإذاعة و التلفزيون. نشكرك.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply