نظرات في الأدب الكرديّ العراقيّ المعاصر 

جمال خضير الجنابي 

إنَّ الاهتمام بتقنية المكان في النص بوصفه عنصراً أساسياً من عناصر البناء الفني سيحيلنا ضمن إجراءات هذه القراءات النصية إلى اكتشاف شعرية مقترنة ببنية المكان وتأشير دلالة الملفوظات المكانية وجمالياتها وتواشجها مع عنصر الزمن الذي لا يستقرأ إلّا من خلال شواهده، سواء كان هذا المكان ذا طابع تفصيلي مندرج في نص محكوم بتزمت مكاني واضح أو كان ذا طابع ترميزي مكثف بعيد عن التفصيل والعناية الخاصة أم كان بين هذا وذاك.

اعتنى الشاعر (سعد الله به روش) بالمكان عناية خاصة حتى أصبح مهيمناً في قصائده على المستويين التركيبي والدلالي متشكلاً في فضاء التجربة الرومانسية الذي يغلف حضور المكان بطابع ذاتي يلاحق عناصره وتجاوب الأصداء فيه ضمن مديات سوداوية طوباوية تتخفى بأقنعة الطبيعة وتتمظهر بانشطار الذات على نفسها في تمثل الأخر.

وللتمثيل على طبيعة التشكيل المكاني في نصوصه سنختارمجموعة من النصوص في ديوانه (اللعنة) لنقول إنَّ القصيدة نصٌّ مكاني خالص ليس لأن المكان فيها يشكل البؤرة الدلالية التي تشع منها مسارات القصيدة جميعها فحسب ولكن لتكوّن البنية اللغوية والمنطوق اللساني فيها من مفردات الأمكنة والإشارات الدالة عليها.

تتكون قصيدة اللعنة من ستة عشر مقطعاً تبدأ جميعها بالمكان أو بالتنويع عليه ببدائل مكانية دالة وصبغ فعلية منبثقة من البنى المكانية فضلا عن عشرات الأفعال المرتبطة بالمكان التي تتواشج تركيبياً مع الدوال المكانية الإسمية العديدة التي تكاد تغطي جسد القصيدة كله. ومنذ البداية يظهر المكان مؤطراً ببنية وصفية لم تقم على خاصية النعت التقليدية بل نهضت على مجموعة صيغ تعبيرية متنوعة العناصر كان من نتائجها وضع المكان وسط حركة انزياح تركيبية ودلالية : 

 (لا أعلم لا..

أكان ذا موعد الرحيل المبتسر لباز       

الروح المهاجر)

ولمَّا كان المكان هنا من أمكنة الفضاءات المفتوحة فقد أخذت البؤرة الدلالية في النص او نواته التي هي (بستان) تصنع لها مسارات دلالية عن طريق الالتفات إلى عناصر جديدة أخذت تظهر في المنظور العام للمكان لم تكن موجودة ضمن تشكيلة البنية الوصفية له في الاستهلال وراح انبثاقها يتساوق مع فعل السير في المكان فخلق ذلك كوناً دلالياً شعرياً غير متوقع وأخذ، من ثمَّ، المنظور المكاني بالانفتاح والانغلاق ليتمدد بالتالي في ممرات شعرية متباينة: 

إلى قبر مظلم ذي ديجور مقلقل

لا يكون الضوء فيه ضيفاً قطُّ

أو تجد في السير مثل حلم اليقظة

وقد قام هذا النص على إحالة ما هو جزئي إلى ما هو كلي هزيمة الإنسان في هذه الحياة وعلى التردد المتبادل بين ما هو خاص وما هو عام حيث يمكن أن يصير أحدهما إلى الآخر، فالمكان هنا بالقدر الذي يكاد يكون فيه عاماً يكاد يكون خاصاً. وإذا كان هذا المكان لم تقع فيه إلا العموميات فإنه من زاوية أخرى ومن خلال الإيهام بانتماء الشخوص إليه بفرضية سابقة أصبح ذا هوية واضحة فالأفعال التي تجري فيه كلّها تنتمي إلى فضائه. إنَّه مكان لم يظهر فجأة بل هو مكان مشخص بدقة لذلك كان مكاناً مناسبا لتفجير المشاعر الخفية: 

(الشتاء

حين يسقط الثلج الأشيب على شعر

مرابع الخصر)

وضمن شعرية التناوب بين الفعل ورد الفعل تتحكم في هذا المكان قوتان تمثلان في الحقيقة زمنيين متضادين، الأولى زمن ما قبل السير في الطريق وهو القوة الدافعة باتجاه الهدف/الأمنيات وهذه القوة تمثل في الواقع الكل المتفاعل والمتداخل في تركيبة الاجزاء كلها وتتخلق جمالياتها في كونها الفضاء الشعري الذي تتحرك فيه تجربة النص كلها. فالميل إلى الموازنة بين الطاقة الشعورية لمجموعة الفواعل المعبر عنها بضمير المتكلم (نا) والفضاء المفتوح قد خلق فعلاً شعرياً حاضراً ونامياً حتى أصبح معيناً يغذي طاقة الصورة الشعرية للمكان. أما القوة الثانية فتمثل زمن العودة بعد تلاشي الأماني وموت الأمل وتتخلق جمالياتها المكانية من خلال الحاجة الفكرية إلى تجميع شتات الصورة الكلية التي تناثرت أجزاؤها في زوايا متعددة منه.

إن انطواء هذا النص على أبعاد مضمرة فيه ومعلنة جعل المكان يمر بحركة توتر فاعلة احتواها هذا المكان مجسداً منظومة المشاعر بفعل العلائق التي خلقتها الأخيلة بحسية عالية عبر حركة المكان الخفية نصياً بين صفتي الأليف والمعادي. ينطوي هذا النص إذن على محورين جماليين ينبثق الأول منهما من احتواء المكان صراعَ المتناقضات فيما ينبثق الثاني من الرؤية الزمنية كعمق نفسي لقيم المحور الأول. ومن هنا جاء تبادل المواقع بين المكان والزمان بوصف ما كان لهذا المكان من حضور فاتن بوساطة الدوال الزمنية: 

(كيف يسند قلبه

يعوذ بصرخ اصطخاب

يراه دوماً آيلاً إلى السقوط!)

ولما كان هذا المكان مفتوحاً بمعنى كونه غير مغلق على سر تأريخي فإنَّ تشكل القيم فيه أخذ يأتي عن طريق مواجهة الحاضر كله زمن موت الأمل للماضي كله، زمن تخلق الأمل ونموه.وفي هذا -دون شك- يكمن البعد الخفي لفاعلية المكان في التشكيل الشعري لصورة الفعل الإنساني ذي السطوح التأملية الذهنية الموشَّاة بالجوانب الحسية الخالقة.

لاشك في أنَّ للشاعر سعد الله به روش مقدرة متميزة على تجسيد أفكاره وهواجسه وإعطائها اشكالاً حسية مؤثرة، وإذا كان المكان يمثل إحدى الوسائل عميقة الأثر في التعبير عن تجارب الشعراء فإنَّ هذا العنصر البنائي ينحسر في قصائد سعد الله به روش عند البحث عن العناصر الأسلوبية المهيمنة فيها إلّا في قصائد معدودة. وإذا كان جزء كبير من شعرية النص عنده على نمط من العلاقة بين الماضي والحاضر فإنَّ المكان في هذه القصيدة تبعاً لذلك يأخذ مساراً يعكس نمو العلاقة وتصاعد قدرتها على الفعل بسبب امتلاء هذا المكان واكتظاظه نصياً بفعل حركة الزمن وتغيره. ومن الواضح أنَّ سعد الله به روش، بسبب مهارته التشكيلية، يعطي ارجحية لما هو ملموس وحسِّي وليس هناك ما يمنح المشهد الشعري كثافة وحسية. لذلك كان غنى القصيدة وشعريتها في الحالة الوجدانية التي فجرها هذا المكان وفي رهافة تحولاته وثرائه بحالة التضاد أو التقاطع التي قام عليها مشهد القصيدة: 

(أعلم أنا

كانت الديار هذه

في زمن ما)

إنَّ العنصر الرئيس في حركة القصيدة كلها هو المكان (الديار) وما ينال منظوره العام من تغير يجعله متضاداً مع خصائصه التشكيلية التي قدمها الشاعر في المشهد الأول مع ملاحظة أنَّ المكان في هذا المشهد، على الرغم من السكون الظاهر الذي يخيم عليه، يختزن توتراً تحت سطحه المسترخي بإشارة من الدال المكاني الأكبر ضمن مرجعيات النص لذلك الاسترخاء الذي يعكسه هذا المشهد سرعان ما يتلاشى في المشهد التالي حين يعيد الشاعر تشكيل لوحته مضيفاً إليها عنصر الزمن لتختفي من المشهد ملامح الاسترخاء ويظهرإلى السطح ما يناقضها من ملامح قاسية تشكلت مع إضافة هذين العنصرين.

(كانت الديار هذه

جمرة موقد إشراقة صباح

أكثر توهجاً من  البهاء)

ونلفت إلى أن المكان يعد عنصراً بنائياً فاعلاً في القصيدة الغنائية منها وتلك النسمة بطابع درامي أو سردي ولا شك في أنَّ حضوره في القصيدة الأخيرة أعمق وأكثر تنوعاً وتغلغلاً في التشكيل البنائي لها. وقد اتسمت الدراسات (الظاهراتية) في شدة الاحتفاء بالمكان وارتبط الإحساس به تشكيلاً وتأويلاً بالبعد الذاتي او النفسي فما عادت الأمكنة تتشكل على وفق مقاييسها الفيزيائية أو حركتها الفيزيقية بل طبقاً لإحساس الذات المتلقية لها فجرى استبطان الأمكنة وإعادة نشرها على السطح بعد أن اتسمت بالميسم الذاتي وانبثقت نتيجة لهذا تقسيمات جديدة للمكان أبرزها ما جاء به (باشلار)على وفق تقسيمه الثنائي الشهير(الأليف + المعادي) وثنائية الداخل والخارج فضلاً عن تشكيلات المنفتح والمغلق الباختينية .

ولانريد هنا الإفاضة في الحديث عن تطورالنظرة الشعرية والنقدية فليس هذا موضوعنا بل ما نسعى إلى إضاءته هو إنَّ المكان امتلك بعداً شعرياً استثنائياً في الشعر الحديث بمراحله المختلفة بدءاً بشعرالرواد وانتهاء بقصيدة النثر الحديثة لما قدمناه من أسباب ولما اتسم به الشعر الحديث من طبيعة انفتاحية تناصّيّة مع الأجناس الأخرى ولاسيما السردية، ونتيجة لهذا كان توظيف المكان واقعاً تحت ظل هذه الطبيعة وبسبب منها.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply