
عاشت المرأة العربية في الجاهلية واقع المجتمع العربي المعيش آنذاك وكانت جزءاً منه ومن الطبيعي أن تكون مشاركتها فيه فاعلة وتختلف باختلاف البيئة والمكانة التي تعيشها لذا اختلفت مكانتها حسب المستوى الاجتماعي ووفقاً للعرف القبلي الذي كان سائدا ولم تكن للمرأة حالة عامة تقاس عليها. ويذهب بعض المتخصِّصين في دراسة أحوال المرأة إلى أنَّها كانت أكثر تحرراً قبل الإسلام عما كان عليه وضعها بعده.
إنَّ حقوق المرأة العربية تضرب بجذورها في عمق التاريخ العربي، ونستعين للدلالة على ذلك بأدلة من الحضارة النبطية القديمة الموجودة في الجزيرة العربية، فالمرأة العربية في ظل هذه الحضارة كانت تتمتع بالشخصية القانونية المستقلة إلَّا أنَّها فقدت الكثيرمن ذلك في بعض القبائل. ويختلف وضع المرأة على نطاق واسع في جزيرة العرب من مكان لآخر نظراً لاختلاف الأعراف والعادات الثقافية للقبائل آنذاك؛ حيث كانت قوانين الديانات المسيحية واليهودية مهيمنة للغاية بين الصابئة والحِمْيَريين في الجنوب المزدهر من المنطقة العربية وفي أماكن أخرى مثل مكَّة ويثرب لمجموعة من القبائل الساكنة في هذه الاماكن؛ وكان ذلك أيضاً ينطبق على ساكني الصحراء من البدو. ويختلف الوضع باختلاف العرف من قبيلة لأخرى، وبالتالي لم يكن هناك تعريف واحد لا للدور الذي اضطلعت به المرأة ولا للحقوق التي حصلت عليها في جاهليتها.
في طبقة الأشراف والسادة والأغنياء كانت المرأة محترمة مصونة تُسَلُّ دونها السيوف وتراق فداء لكرامتها الدماء، وكانت تتمتع بالحقوق ولها ذمَّتها المالية المستقلة فامتلكت الأموال وشاركت فى التجارة وتعهَّدت بها لمن شاءت من أهل الثقة والكفاءة والأمانة حسب رغبتها. وأمَّا في الحياة اليومية فحظيت نساء الأشراف والأغنياء فى بيوتهن بالراحة والدعة، تخدمهنَّ الجواري والإماء فيقضين أوقات فراغهنَّ فى التزين لأزواجهنَّ وعقد المجالس مع نساء طبقاتهنَّ وفي الحديث والمسامرة. أمَّا المرأة فى الأوساط العامية أوالبدوية فكانت أقل حظاً من نساء الطبقة الراقية إذ تقع على عاتقهن مسؤولية البيت ورعاية الأولاد وإعداد الطعام وجلب الماء من الآبار والعيون وحلب الحيوانات وغزل الصوف – كما هو الحال في المجتمعات القروية الآن- وصناعة الملابس لها ولأولادها، وصناعه الخيام والبسط، وجمع الحطب للوقود. وفضلاً عن ذلك كانت بعض النساء تشارك زوجها في كسب العيش والسعي للرزق، فمنهن من احترفت الإرضاع مثل حليمة السعدية مرضعة الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وتبنَّت إرضاع أبناء الأغنياء في الحضرمقابل جُعل يأخذونه من والد الصبي. ومنهن من اشتغلت بالكهانة والعرافة والتنجيم. وبعضهنَّ أوكل إليهنَّ سدانة المعابد أوخدمة الاصنام.∗
أمَّا فى الحروب فقد كان للمرأة دور كبير وذلك بإثارة روح الحماس في صفوف الرجال وتشجيعهم على بذل النفوس رخيصة بغية تحقيق النصر لقبائلهم والذود عنها وعن محارمها، وكانت المرأة أحد هذه المحارم. عندما استحكم الصراع بين الغساسنة والمناذرة نزلت حليمة بنت الحارث الغسَّاني لتتفقَّد جنود أبيها بنفسها ولتحثَّهم على الحرب والقتال وتبثَّ فيهم روح الحماسة والإقدام وتدهن أيديهم بالطيب والعطر. وكان اندلاع حرب البسوس التي دامت أربعين عاماً بسبب اعتداء (كليب) زعيم ربيعة على ناقة (البسوس).
وتتكرر هذه الحالة فى يوم أُحد حيث خرجت النساء القرشيات بقيادة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب يتجوَّلن في صفوف القرشيين المقاتلين، ويضربن بالدفوف، يستنهضن الرجال، ويحرضنَّهم على القتال والحرب ويعلنَّ أنَّهنَّ لن يكنَّ أزواجاً لهم إن خسروا الحرب والنزال وهنَّ ينشدن الأناشيد:
ويهاً بني عبد الدار ويهاً حُماةُ الأدبار
ضرباً بكلِّ بتــَّـار
وكانت النساء تصاحب الرجال إلى ساحة القتال لمداواة الجرحى وحمل الماء إلى العطشى، ولم يقتصر دورهنَّ عند هذا الحد فحسب بل شاركن في المعارك وبارزن في القتال بالسيف، وامتطين صهوة الجياد، ورفعن لواء الحرب، وكانت لبعضهنَّ صولات وجولات لا تقل عن فرسان قبائلهن. وربُّما كان الاعتداء على المرأة يسبب اندلاع الحرب بين القبائل وإراقة الدماء، فهذه( ليلى) والدة الشاعرعمرو بن كلثوم يوم استجارت بقومها لم يملك ابنها إلَّا إن استلَّ سيفه وذبح الأمير عمرو بن هند شقيق ملك الحيرة، وسبى خيله ونساءه عقاباً له لتعمُّد أمِّه إهانة ضيفتها أم عمرو بن كلثوم وفي ذلك يقول :
بِأَيِّ مَشِيْئَـةٍ عَمْـرَو بْنَ هِنْـدٍ
تُطِيْـعُ بِنَا الوُشَـاةَ وَتَزْدَرِيْنَـا
تَهَـدَّدُنَـا وَتُوْعِـدُنَا رُوَيْـداً
مَتَـى كُـنَّا لأُمِّـكَ مَقْتَوِيْنَـا
فَإِنَّ قَنَاتَنَـا يَا عَمْـرُو أَعْيَـتْ
عَلى الأَعْـدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِيْنَـا
إِذَا عَضَّ الثَّقَافُ بِهَا اشْمَـأَزَّتْ
وَوَلَّتْـهُ عَشَـوْزَنَةً زَبُـوْنَـا
عَشَـوْزَنَةً إِذَا انْقَلَبَتْ أَرَنَّـتْ
تَشُـجُّ قَفَا المُثَقِّـفِ وَالجَبِيْنَـا
فَهَلْ حُدِّثْتَ فِي جُشَمٍ بِنْ بَكْـرٍ
بِنَقْـصٍ فِي خُطُـوْبِ الأَوَّلِيْنَـا
واشتهر بعض نساء العرب بالحكمة والتعقل فكنَّ مرجعاً للأخذ بمشورتهنَّ وسماع آرائهن. وكانت المرأة تتمتع بالاحترام إذا كانت أمَّاً، وللأم صفة خاصة ومكانة مرموقة حيث يحرص ابناؤها –وما يزالون – على برِّها وكسب ودها ،ولما جاء الإسلام أكَّد هذه النزعة، قال تعالى :
(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا *) سورة الاسراء الآيتان: 23 و24
أما فى الحياة الأدبية فقد برزت نساء شاعرات أجدن نظم الشعر وامتلكن من فصاحة اللفظ وجزالة المعنى ما جعلهنَّ في موقع المساواة مع فحول الشعراء وكان من أشهرهن جليلة بنت مُرَّة والخنساء (تماضر بنت عمرو بن الشريد ) التي بلغت من الفصاحة والبيان ما أهَّلها للتحكيم بين كبار الشعراء في سوق المربد .
هذا غيض من فيض ممَّا كانت المراة العربية في جاهليتها تعمله ومكانتها الاجتماعية فيها.
———
∗ انظر كتابنا (المراة العربية في العصر الجاهلي ). دار دجلة. عمَّان/ الأردنّ.
* القرآن الكريم
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل