ثُريّات المَضامين في بنات أور

(بنات أور) للكاتبة العراقية أسماء الرومي يحلّله بقراءتِه:

جابر خليفة جابر

” لقد سمعت المفتاحَ

يدور في الباب مرة

ويدور مرة واحدة

نحن نفكر بالمفتاح

كلٌّ في سجنه يفكر بالمفتاح،

كلٌّ يؤكد سجناً

عند هبوط الظلام.. “

*ت أس إليوت / الأرض اليباب

إذا كان العنوان ثريا تضئ الطريق إلى النص أو تجذب القارئ إليه كما نظّر أساتذة نقد ومهتمون بموضوعة العنوان والافتتاحات النصية، فإن للمضمون وللشكل الفني للنص ثريات أكبر وأشد إضاءة وأسطع عبر ما يبثه من رسائل وإشارات، هذا إن كان نصاً يتسمُ بسمة الإبداع على صعيدي المحتوى والمبنى، والنصوص القصصية في كتاب بنات أور ترتقي بجدتها ومعالجاتها إلى هذا المستوى النصّي المتميز.

جنّست الكاتبة عملها بكلمة (قص) وهي هنا منتبهة تماماً لما كتبته وواعية إلى أن منجزها في الكتاب لا يضم قصصاً تقليدية بالشكل والمعنى المتعارف عليهما، فالقصة القصيرة معروفة بمواصفاتها الكلاسيكية وبعناصرها أو مكوناتها كالبداية والحدث والذروة والنهاية والشخصية والزمن، ولا يضم أيضاً نصوصاً مجردة من الهوية.

إن نصوص بنات أور أقرب للقص روحاً ومبنى من أي جنس أدبيٍّ آخر.

 كلمة (قص) تبدو وكأنها منحوتة من كلمتي (قصة + نص) لذا سأسمي نصوص هذا الكتاب ـ(نصوص قصصية) والنص القصصي يخرج عادة أو يتمرد على الاشتراطات التقليدية للقصة القصيرة ليقدم لنا سرداً مقارباً للقصة ومتحرراً من شروطها، لكن الكتاب الذي يضمّها يبقى كما أرى مجموعة قصصية إذ غاب عنه ذلك النسيج الواحد اللازم لاعتباره كتاباً قصصياً وفقا للتجنيس الذي أقول به وأوضح أمثلته كتابي القصصي ( طريدون) ومع هذا فإن مشتركات بينةً عديدة جعلت نصوصه الثمانية عشر جميعاً تقترب به من جنس الكتاب القصصي.

وأبرز هذه المشتركات ما وشى به العنوان (بنات أور) مع ملاحظة إن البنات هنا موجودات بشكل مباشر أو بالإشارة في جميع النصوص، لكن القراءة لا تقول أن كلمة بنات مقصود بها تحديد للفئة العمرية، وهذا ما نستشفه من الإهداء(لكل النساء بعيداً عن الصمت) كل النساء اللواتي هن بعيدات عن الصمت من جميع الأعراق والألوان والأطياف والأعمار مشمولات بالإهداء، يعني هذا إن الل اصامتات الرافضات للخنوع هن بنات أور بغض النظر عن العمر، الشباب، الفتوة هي الرفض للعبودية وليس العمر أو النضج العقلي، هذا ما تراه القراءة جامعة بين ثريتين من ثريات النص، بين عنوان المجموعة وعبارة الإهداء.

والمفتتح (ص 7) والذي يلي الإهداء يعزز هذا المعنى حين يشير بوضوح عبر تساؤلاته عن الصراع المحتدم في الذات العميقة الخفية ومقاربة عالم اللاشعور وما يخلفه من تكوينات سايكولوجية مركبة وبالغة التعقيد داخل النفس البشرية المضطَهدة والرافضة في آن.

ولم تكتف المؤلفة بابتداء الكتاب بهذا المفتتح بل كررته لتختتم به الكتاب إذ احتل الغلاف الخلفي للمجموعة في تكرار يؤكد قصدية المؤلفة في إعادته مرتين، الأولى في مبتدأ الكتاب وافتتاحيته، والأخرى في خاتمة الكتاب وعلى غلافه الخلفي، وكأنها بذلك تقول كل ما في هذا الكتاب أو هذه النصوص إنما مؤطر أو منطلق من تساؤلات هذا النص، ولنعاين معاً هذا النص الافتتاحي الخاتم ونقرأ:

 ((هل يمكننا أن نتسلل إلى تلك الذات العميقة الخفية التي تخلّفها الصراعات المتتالية داخل كينوناتنا؟!

الذات التي تتكون دون أن نعي من حطام انكساراتنا بملامح حادة قادرة على أن تجرح كل ما يشير لها بالاختلاف ..

هل يمكننا الإمساك بها أو مواجهتها ؟

ربما سترشدنا لحقيقتنا !))

هذا التكرار التوكيدي كما ترى القراءة يرسم أمامنا روح الكتاب ورسالته ومحتواه، إن هذه النصوص القصصية على تباين موضوعاتها ومضامينها ما هي إلا محاولات عدة أو محاولة لفهم وجودنا كذات، وتتساءل عن سبب هذا الوجود مع ما ترافقه من مآس وآلام وانكسارات، نصوص الكتاب هي قراءة لحقيقة الصراع المحتدم في دواخلنا كانعكاس لصراع خارجي مدمر بين السلطة والرفض، بين الذكورة الطاغية والأنوثة التواقة للحرية. هذا باختصار مكثّف ما بثه المفتتح/الخاتمة، من رسالة أو شفرات..

إن من بنات أور تلك الطفلة التي تجلس عند الساحل وهي تصنع دمى من طين على شكل قلوب صغيرة وترتبها على شكل قلب كبير لكن كرة صبي غريب تسحق هذا القلب وما يمثله من قلوب صغيرة.

النص القصصي هذا وعنوانه (كرة) والمكون من كلمات قليلة (ثلاثين كلمة تقريباً) قال الكثير، لم يتحدث لنا عن موقف الطفلة مما فعله الصبي، لكنه كشف عنه بذكاء، بصمت، يقول بورخس في مقولة جامعة مانعة: إخفاء الشيء أفضل طرق الإشارة إليه.

الرفض هنا أو موقف الطفلة أخفته الكاتبة ببراعة لكن إخفاءه أشار إليه، كشفه، وهنا يكمن الفن وتكمن روح الإبداع، الأدب لا يعني أن نكون واضحين حد المباشرة وحد التقريرية الفجة، الأدب عموماً يعني الانزياح ويعني لغة الإشارة والمجاز، والقراءة إن لم ترتق لمستوى قراءة وتلقف الإشارات هي قراءة مُعاقة أو ناقصة، وحدها القراءة التي تحاكي عمل الأشعة تحت الحمراء في رؤية ما هو موجود لكنه غير ظاهر، القراءة تحت الحمراء كما أسميها هي التي رأت الرفض كموقف لبنت أور تلك، الطفلة صانعة الدمة والقلوب.

مرة تحدث تشيخوف عن الفلاحين فقال أحدهم معترضاً عليه بما معناه: أنت تتحدث عن الفلاحين لكن قصصك ليس فيها شخصيات قروية ولا تضم سوى الشخصيات الغنية والمترفة، فرد عليه تشيخوف قائلاً: أنت إن لم ترَ الفلاحين في قصصي فأنت لا تفهم في القص شيئاً!

بهذه البراعة التشيخوفية التي لم تظهر الفلاحين ومع هذا كانت تتحدث عنهم وتنتصر لهم، أخفت أسماء الرومي عنا موقف الطفلة لكنها تحدثت عن موقفها من دون أن تكتب أي كلمة، بل وانتصرت للطفلة وموقفها وجعلت القارئ يقف معها ويتضامن رافضاً الكرة الدائرة العنيفة الخالية من الروح، ومتعاطفاً مع الاستدارة الحانية الأجمل، استدارة القلوب النابضة بالمحبة. 

هذه الطفلة (وأذكر هنا أنني مسترسل في بيان الوشائج المشتركة بين نصوص المجموعة) هذه الطفلة وهي إحدى بنات أور تتجلى ثانية في النص القصصي (خسائر باهظة) و: تدرك أن الخوف شيء بارد وقادر على أن يسلب نور العالم كله!

هذا الإدراك يعني الرفض أيضاً.

في نص (كرة) لم يظهر أي رد فعل مباشر لبنت أور تلك، لكنها في نص (خسائر باهظة) ظهر منها الإدراك، نحن إذن مع سلّم معرفي أو موسيقي متنامٍ، حدث سحق القلوب، بعده إدراك بأن الخوف شيء بارد وقادر على سلب النور، وسيتصاعدُ هذا الهارموني التعريفي مع نصوص الكتاب الأخرى كما سنرى. 

ففي النص القصصي الثالث من المجموعة (يا تين) كان التحدي منذ البدء، أول النص، ف بعد حدث الكرة وبعد إدراك الخسائر الباهظة، جاء الإعلان واضحاً في (يا تين ص-13): إن لم يسطع حضورك فلا تخف من الغياب! تدرّج أعلى لكنه لم يصل إلى ذروة الرفض، هذا الجمال الخفي في التصاعد الإشاراتي لنصوص المجموعة أحد الأسباب التي تجعلني أقول بتميزها وباختلافها عن السائد من القصص وفرادتها..

لكن وتذكيراً بما استنتجته القراءة عن إن بنات أور لا تعني عمراً محدداً، فإن اثنتين من بنات أور كانتا طفلتين في النصين الأول والثاني بينما في نص (يا تين) هي فتاة شابة وإن كانت متلهفة للقاء حبيبها، لكنها قررت أن تكون قوية من دونه، وحولت غيابه هو إلى حضورها هي!.

والفئات العمرية الرئيسية الثلاث كلها تجسّدت في النص القصصي (قلوب صغيرة – ص 17) الطفولة “جربت السرقة وأنا في الثامنة” والساردة أو المتحدثة تبدو فتاة كبيرة بما يكفي من النضج لتقص علينا ذكرى ما فعلته هي وأصحابها مع العجوز شقراء/ نلاحظ:  طفلة–فتاة–عجوز/ وعنوان النص (قلوب صغيرة) أعادني إلى النص القصصي الأول (كرة) هناك صبي حطم القلوب الصغيرة بكرته، وهنا المرأة العجوز لم تقذف الأطفال بحجر بل ابتسمت لهم لقلوبهم الصغيرة. هذا التضاد بين الجمال والقبح يقول بوضوح إن بنات أور قد تمثلهن عجوز كـ”شقراء” المتشردة هذه أو طفلة أو شابة، وإن الآخر الذكوري هو الطرف المقابل لكن الحديث عنه لم يأت إلا عبر تفنن في السرد أومن خلال الإشارة.

وكي لا ننسى التصاعد الهارموني لموقف بنات أور، من طفلة الدمى، إلى الطفلة التي أدركت، إلى الفتاة التي تحدّت غياب الآخر بحضورها وعدم الخوف، نلاحظ هنا تصاعد الموقف أكثر وأيضاً بهدوء فني لافت للنظر فيكون الموقف فعلاً، السرقة البريئة لإطعام العجوز ” شقراء ” وامتناع شقراء عن إيذائهم بل الابتسام لهم، وسيستمر هذا السلم المتدرج صعوداً يكاد أن يكون غير مرئي وغير محسوس، ففي النص القصصي (إفاقة ص 19) يتطور الفعل الرافض لبنات أور إلى السعي الجاد والجريء للتحرر فتقوم بالهرب نحو الحرية طبعاً، وهي وإن كانت محاولة هرب فاشلة، لكنها ممارسة وعي ورفض وتحرر، وهنا أيضاً تؤكد القراءة إن بنات أور لسن كل النساء إنما الرافضات للخنوع منهن، وهكذا نضع زوجة الأب في نص “خسائر باهظة” وزوجة الأب في نص “إفاقة” خارج عنوان النص فهما ونظائرهما لسن من بنات أور، لأنهما مارستا فعلاً ضد الحرية. 

نعم إن هذا العنوان الشعري الجميل بنات أور لا يليق إلا بمنجز تتحلى بروح الجمال وإلا بمن يصدر عنها فعل صانع وناشر لقيم الجمال والحرية والخير والمحبة، وقد كانت نصوص أسماء الرومي كهذه، ولربما يلتفت قارئ فطن إلى أن القراءة حتى الآن لم تتتبع من العنوان إلا كلمة بنات حسب وأهملت كلمة أور ومعانيها الجمالية وعمقها الرافديني لكنه ليس إهمالاً بل تأجيل إلى أن يحين دورها.

ونعود إلى مشتركات النصوص القصصية لهذه المجموعة القصصية المتميزة عمقاً وفناً وسرداً ونرى أن بنت أور في النص القصصي (ميتاً يقف على قبره) تلك الأخت الصغيرة التي دأبت على استكشاف دفتر يوميات أخيها، جندياً وشهيداً ثم عودته كأسير محرر، كانت وبحكم الأحداث المحيطة من حرب ودمار وويلات تأخذ دور المراقب والعين الدقيقة الفاحصة لترسم لنا مشاهد الموت والقصف والقتل ومآسيها، هذا الموقف المحايد بظاهره يضمر موقف إدانة لما حدث، بنت أور هنا وهي قد تكون طفلة أو فتاة ترسم الأحداث وكأنها تدينها من دون أن تبدي موقفها علانية تماماً كموقف طفلة الدمى القلبية في نص ” كرة” من الناحية الشكلية لكنّه وفقاً للهارموني التصاعدي لمواقف بنات أور نجد الفتاة الأخت هنا تدين بقوة موت أمها ومقتل أخيها أو أسره وحتى عودته، تدين الخراب الذي تسبب به الآخر الرجل أو السلطة الذكورية الضاغطة الموقدة للحروب. بقي أن أقول إن هذا النص (ميّتاً يقف على قبره) هو أقرب لأن نسميه قصة قصيرة وليس نصاً قصصياً فقد امتلك اشتراطات القصة القصيرة ونجحت الرومي بتطويرها لشكل فني جديد ومتميز إذ تمت صياغتها شكلاً ومحتوىً وأسلوباً بمستوى عال من البراعة السردية اللافتة للنظر.

وتستمر القراءة في تتبع هذين الخطّين الناظمين لنصوص المجموعة القصصية، الأول هو أن المقصود ب بنات أور كل امرأة أو كل أنثى ترفض الخضوع للقهر والتسلط من النساء من دون تحديد للعمر، والثاني هو ذلك الموقف الممثل للرفض والمتنامي ظهوره من أول نص وحتى خاتمة المجموعة.

وهذان السلكان الحريريان نجدهما في النص القصصي (نافذة) حيث تقاوم بنت أور أو المرأة الأربعينية هنا نظرة الآخرين لها وكيف يرونها قد وصلت إلى الباب الخلفي للحياة، بينما هي ترى العكس وإن الأربعين تجعلها “أكثر وعياً وأكثر إصراراً لمعرفة الحياة وأكثر تقبلاً للآخر وربما أكثر حباً للمرح والعبث – ص 25”

وتصف الباب الخلفي كما يرونه هم باباً ” يفرض علي ألا أتمادى بأحلامي، ألا أفرط بعاطفتي، ألا أسرع بخطواتي، أن أقبل بكل ما يفرضه واقعي البغيض – ص25″ 

هنا الموقف لم يعد مخفياً ولا حيادياً بمكر ولا معلنا بهدوء، وإنما هو موقف رافض بقوة وحزم ويصف ما يرفضه ب (واقعي البغيض) وتقودنا الإشارات وهي تصف ترك الأربعينية الساردة النظر عبر النافذة لتمارس فعل الكتابة ومن ثمّ تعود للنافذة ذاتها لترى تحقق حلمها هي بالحرية عبر مشهد لقاء لعاشقين “يشبكان الأيادي بحب، ويتمتمان كالعصافير” كأنهما يقبلان ما كتبته ويبرهنان للعالم أنه على جهل حين رأى أن الأربعين يعني الوصول إلى الباب الخلفي للحياة.

القراءة هنا تلتقط الإشارة وهي أن الكتابة فعل تحرر، وفعل تحقيق للحلم، وهي ضد الصمت ومع الوعي والحرية والمحبة، الكتابة بعد ترك النافذة المشبعة باليأس والإحباط هي التي أعادت الأمل والمحبة للنافذة ذاتها.

وهذا تطور جديد للموقف المتصاعد لبنات أور: قلن ولا تصمتن، اكتبن ولا تسكتن، وستتحقق أحلامكن.

ولا ننسى أن عمر الأربعين لا يتناسب وصف صاحبته بالبنت إلا مجازاً وهذا ما يؤكد ما قلناه في البدء من أن عبارة (بنات أور) لا تعني تحديداً عمرياً، وإنما تعني كل امرأة تتطلع إلى الحياة بحرية وكرامة، الفتوة والشباب هي للحرائر والمتطلعات للتحرر وليس للجواري وإن كن شابات أو بنات.

ومن الإعلان أن الكتابة فعل تحرر وصوت صادح ضد الظلام والقيود الظالمة والمعيقة للتقدم، تعلن ابنة أور جديدة في النص القصصي (ربيع رمادي) وهي هنا رسامة؛ إن الفن أيضاً فعل تحرر وليس الأدب فقط، فالألوان والرسم واللوحة والفنون التشكيلية هي أيضاً أصوات تحرر عبر تساؤلات الساردة المرّة: أين الربيع؟

وكيف للمواسم الأخرى أن تمكث طويلاً في ثنايا الروح؟ وكيف ….؟ وتنهال الأسئلة حتى تتخذ ابنة أور عريقة الحضارة وواعية الحاضر قراراها الحازم الحديد وتدير ظهرها للوحة الربيع الرمادي، ذاك اللا ربيع وتمضي، ويتساءل القارئ إلى أين مضت؟ ولا شك أن الإجابة ستكون : مضت نحو الربيع الحقيقي، ربيع الألوان.

وابتغاءً للاختصار ندع تتبعنا للخيطين الناظمين أو السمتين المشتركين في النصوص الأخرى مع أنهما موجودين بهذا الشكل أو ذاك في كل النصوص أو أغلبها ونلتفت لمشترك ثالث بين نصوص المجموعة وهو: إن أغلب أو كل عناوين النصوص تميل إلى التعميم من جانب وإلى التنكير أيضاً وتتجنب التخصيص والتعريف المحدد، كالعناوين المتكونة من كلمة واحدة ” نكرة ” مثل (كرة/إفاقة/نافذة/تساؤل/انسحاب/ زرقاء) أو من كلمتين وسنلاحظ أن هذه العناوين أقرب إلى التنكير وإن كانت جملاً (خسائر باهظة/يا تين/قلوب صغيرة/ربيع رمادي/محاولات فاشلة/إصابة بليغة/سارة والقمر/إلخ) وحتى تلك التي كانت جملة كاملة من أربع كلمات تامة المعنى (ميتاً يقف على قبره) جعلها التقديم والتأخير بعيدة عن التحديد والتعريف بل خلت من أل التعريف (ميتاً وليس الميت) وهذا يشير إلى أن المجموعة هذه تتناول ظواهر اجتماعية عامة تشمل مساحة واسعة وربما غالبة من المجتمع وليس حالات فردية متفرقة، وتدعو من خلال ذلك إلى مواجهتها بشتى طرق الامتناع والمقاومة والسعي نحو التحرر. وترى القراءة إن هذه الدعوة إلى التشبث بطريق الحرية هي الرسالة الأساس والأهم لهذه التشكيلة القصصية الجميلة.

أما السمة المشتركة الرابعة لنصوص المجموعة فهي أن جميع الشخصيات الأساسية وفي جميع النصوص كن نساءً أو لنقل كن بنات أور.

ونخلص من هذه السمات الأربع وغيرها كثنائية الصراع الأزلية التقليدية بين الجمال والقبح وبين الخير والشر، وكإشكالية العلاقة بين الأنوثة والذكورة في العالم البشري، وكحجم النصوص القصصية فجميعها قصيرة حتى يمكن تجنيس العديد منها بالقصيرة جداً، نخلص من كل هذه السمات إلى أن هذه المجموعة القصصية قريبة نسبياً من كونها كتاب قصصي متضامنة نصوصه للإعلان عن ظواهر اجتماعية محددة ومنحازة ضد المرأة، ومعالم رفض بنات أور لتلك الظواهر.

وهنا يتساءل القارئ عائداً إلى العنوان، لماذا أور وليس مدينة أو بلد معاصر؟ ولماذا أور الرافدينية وليس غيرها.

لاشك أن الشعرية العالية لهذا العنوان “بنات أور” متأتٍ من أن الكاتبة هي شاعرة مبدعة، ووصفها بالمبدعة في الشعر أقصده ولا أقوله اعتياداً أو جزافاً، وليس هنا طبعا مجال الحديث عن التجربة الشعرية لأسماء الرومي فهذا خارج اختصاصي نوعاً ما لكنني أرجو أن تنال أسماء الشاعرة اهتماماً نقدياً أكثر بما يتناسب وفرادة أسلوبها الشعري المعتمد على جماليات الفكرة والموضوع وتساؤلات القلق الوجودي وتشخيص الظواهر المظلمة في المجتمع للارتفاع بشعرية نصوصها لمستوى عال بدلاً عن الاعتماد السائد على البنى السردية وتشعيع المفردات، وكي لا يجرّنا الشعر لحدائقه أقول أن فرادة الأسلوب لدى أسماء الرومي وهي شاعرة لم تفارقها وهي قاصة وكانت سمة لها في مجموعتها القصصية الأولى (بنات أور).

ونعودُ إلى سؤال القراءة: لماذا أور؟ لماذا لم يكن العنوان (بنات العراق) أو (بنات البصرة) والبصرة قديمة وحاضرة هي سليلة أور الرافدينية وابنتها؟

يشير هذا الأعراض عن التاريخ القريب أو المرتبط بأسماء معاصرة واعتماد بعد زماني يعود إلى مبتدأ الحضارة الإنسانية إلى التأكيد على أن بنات أور إنما هن بنات حضارة عريقة وهن من علمن البشرية ويكفي أن يكن سليلات عشتار أو إنانا تلك السومرية الملكة التي غلبت الأله أو الملك إنكي بعقلها وحكمتها وأخذت منه ألواح المعرفة. 

أما الحاضر ممثلا بالعراق أو البصرة فأقل سطوعاً والمرأة في حاضرنا أقل توهجاً وأدنى تحرراً بكثير من تلك المرأة العراقية الرافدينية المسماة بنت أو بنات أور.

وهي بهذا العنوان تؤكد حضوراً شعرياَ واضحاً حتى في سردياتها، بل يمكن القول إن نصوص أسماء الرومي في هذه المجموعة حتى وإن كانت قصّاً لكنها تشع بالشعرية الكامنة، وعنوان الكتاب هو أوضح الأمثلة الدالة على ذلك.

إن عنواناً متميزاً مثل (بنات أور) لا تصح تسميته بعتبة نصيّة، حتى وإن رجعنا إلى أفضل توصيف للعتبة وهو أن تكون المدخل أو المجاز المؤدي إلى النص، ووصفه بثريا النص أجمل وأليق به، وكنت قد تحدثت خلال شهادتي في مؤتمر السرد الرابع في بغداد 10-12-2022 عن إن استخدام مصطلح العتبة النصية لوصف العنوان لا أجده مناسباً خاصة وإن المعنى الغالب في اللغة العربية للعتبة هو الحافة السفلى الأوطأ لباب الدار، وحتى لو كانت العتبة هي العارضة أو الحافة العليا للباب تبقى بمستوى منخفض عن الدار، بينما يتجلى مصطلح ثريا النص بشكل جمالي وواقعي ليكون وصفاً رائعاً للعنوان ولم يثبت بعد لدي من اجترح مصطلح ثريا النص وقال به كوصف للعنوان! إذ يحيل أستاذنا الحي الراحل محمود عبد الوهاب هذا المصلح بهامش في كتابه (ثريا النص) إلى ديريدا مستنداً إلى مقال للناقد حاتم الصكر كتبه عن عبد الفتاح كليلطو وهي إحالةٌ بعيدة عن المصدر المباشر، هذا فيما لو صحت الإحالة لجاك ديريدا. وقد حاولت التقصي قدر طاقتي، تعيقني اللغة وعدم تفرغي، واستعنت بأصدقاء يجيدون الفرنسية والإنكليزية فلم يجدوا مصطلح (ثريا النص) منسوباً لديريدا، فهل كان هذا المصطلح من اجتراح أستاذنا محمود عبد الوهاب ولم يعلن عنه ؟ طرحت التساؤل في مؤتمر السرد على عدد من النقاد المهمين ولا جواب بل أن أحدهم نسبه من دون تدقيق إلى جيرار جينيت!

والأغرب من هذا أن المصطلح الآخر الشائع بين نقادنا وأدبائنا شيوعاَ كبيراً وأعني (العتبات النصية) لم يؤخذ من كتاب مترجم بالكامل لجيرار جينيت وإنما من كتاب عبد الحق بلعابد المعنون (جيرار جينيت من النص إلى المناص) وكان مصطلح العتبات النصية من ضمن ما تناوله فيه، والسؤال وسط بابل المصطلحات المضطربة في معرفياتنا العربية هل يحق لبعضنا استخدام مصطلح لم يطلع بشكل كاف على تأصيلاته النظرية من المصادر المباشرة ولو مترجمة وهل من المعرفة أن نلوكه بشراهة من مصدر غير مباشر لم يخصص له بالكامل وأعني الكتاب أعلاه ومقالات أخرى ربما ؟ هل يصح هذا علمياً ؟ أورد هذا التساؤل برائحة الاستغراب وأعود لكتابنا محل القراءة (بنات أور) وأتناول سبعاً من نصوصه القصصية منفردات، وكل نص من نصوصه كما قدمت قائم بذاته ومستقل.

( 1 )

مع أن نهاية قصة (ميتاً يقف على قبره) متطابقة تماماً مع الحدث الأخير والصادم حين يفاجأ الأخ الرسام أو الجندي الأسير بقبر له وشاهدة القبر تحمل اسمه هو الأسير العائد ويقع قبره هذا جوار قبر أمه، لكنه يعرف بأن قبره هذا يضم رفات جندي آخر كان رفيقه في الحرب، لكن هذا التطابق لن يكتشفه القارئ إلا بعد الانتهاء من قراءة هذه القصة المتميزة فنياً، ولاشك أنه إذا أراد استيعابها جيداً سيعود لقراءتها مجدداً، وهنا تكمن أهمية اختيار العنوان وعلاقته بالمتن فالعنوان هنا ثريا نص لكن ضوءها جاذب للقراء ومستدرج لهم قبل أن يكون كاشفاً، سيتساءل القارئ كيف لميت أن يقف على قبره، ويدفعه هذا التساؤل للمضي في القراءة حتى النهاية، حينها سينحلُّ لغز العنوان بعد أن تشرّقُ به القاصةُ وتغرّبُ بذكاء ودراية، ولو لاحظنا بداية القصة وخاتمتها والعنوان لوجدناها تخلو من أي إشارة للمتن الجميل أو لحكاية الجندي الرسام الذي يرسم رفاق الحرب كي يحتفظ بملامحهم بعد فقدانهم في المعارك، ثيمة جميلة جداً تضمنها المتن الذي لم تشر إليه لا الافتتاحية ولا الخاتمة ولا حتى العنوان وهذه البراعة في الإخفاء والتمويه على القارئ دليل على المهارة القصصية العالية للكاتبة، مع ملاحظة إن الميت الذي يقف على قبره هو ذاته الأخ الوارد ذكره بداية القصة وهو ذاته الجندي الأسير الواقف على قبره فعلاً في خاتمة القصة، وهنا تضافر العنوان مع مفتتح القصة ونهايتها ببراعة قص لافت للنظر.

( 2 )

وفي قصتها الثانية (يا تين) يحيلنا العنوان إلى قصيدة للشاعر العراقي حافظ جميل الذي كتبها بوحي من حكاية له مع فتاة حادة الطبع قوية الشخصية كان زملاؤها الطلبة يتحاشون الاقتراب منها لكنها استجابت لغزل الشاعر ولم تبتسم إلا له.

هذا العنوان والتعريف الثانوي (لا تخف من الغياب إن لم يسطع حضورك) ينسجمان تماماً مع علاقة تلك الفتاة وكان اسمها على ما أتذكر ليلى تين، والإشارة هنا أو استحضار حكاية حافظ جميل وليلى تين يكشف عن علاقة قوة واثبات حضور ووجود تبنته شخصية القصة بعد أن تخلّف حبيبها عن الحضور في موعدهما عند شجرة التين (نلاحظ مفردة تين الرابطة بين اسم الفتاة والشجرة محل موعد اللقاء) هذه الشجرة التي يحمل جذعها أوشاماً لمواعيد ماضية بعيدة لا يمثل حضور الفتاة الساردة عندها إلا محاولة لم تنجح لإضافة وشم جديد، فلكل وشم حرفان يمثلان طرفي اللقاء، لذا لم يحفر وشم يوثق موعدهما ولقائهما على جذع التينة بسبب غياب الآخر، وهكذا قررت أن تستعيض عن غيابه بحضورها هي وبأن تكتمل -ولو من دونه- الأشياء الجميلة من حولها.

وبخلاف النص القصصي (ميتاً يقف على قبره) فإن العنوان هنا والجملة الافتتاح والخاتمة تضافرت مع المتن القصصي لتقدم لنا لوحة جميلة أخرى.

إن هاتين القصتين أو هذين النصين القصصيين (ميتاً يقف على قبره + يا تين) يكشفان عن مبدعة متميزة في القص كتميزها الذي نعرفه في الشعر والفن التشكيلي، وعسى أن لا يؤثر هذا التنوع في مجالات الإبداع الثلاث على أي منها.

( 3 ) 

في النص القصصي الأول من الكتاب وعنوانه (كرة) نلاحظ التنكير للإشارة إلى التعميم وإن ما تناوله النص أو أراد بثه من رسائل يتعلق بظاهرة عامة وليس بحالة فردية، ومن ثم فإن الإدانة التي يتعاطف معها قارئ هذا النص السهل الواضح القصير جداً والمكثف تكثيفاً بارعاً، هذه الإدانة تتوجه لمجتمع بكامله يعبث كما يعبث الصبيان بمقدرات الطفولة ممثلة بالقلوب الصغيرة والطفلة صانعة القلوب ذاتها من جهة، وبمقدرات المرأة ممثلة بالقلب الكبير وبالأنثى الموجودة في صانعة القلوب من جهة أخرى، عبث بعقل جاهل وقدم رعناء تسحق تلك القلوب، قلوبهن، بركلة كرة طائشة، ومن دون أدنى رحمة، وأي اهتمام. 

كان ساحق القلوب –المجتمع الذكوري- صبياً للتعبير عن جهله وعدم نضجه.

بينما كانت صانعة القلوب طفلة للتعبير عن ضعفها أمام الآخر ورقتها وبراءتها.

وأمام هذا التضاد(ذكورة/أنوثة) (جمال/قبح) (خير/شر) تتضح أمامنا سمة أو خيط ناظم جديد يمر من نص لآخر حتى يضم نصوص الكتاب جميعاً، معلناً إن المرأة بشكل عام هي قلب مسحوق بأقدام “الرجال” وصبيانيتهم القاسية اللاهية.

ولذا فإن جلوس الطفلة على الساحل، هو نوع من التطلع نحو الأفق ونحو البحر اللامتناهي ويعني أكيداً التطلع إلى الحرية والتحرر ولن يتسنى للقارئ أن يعرف رد فعلها هل ستغادر الساحل وتعود إلى أقفاص المجتمع أم ستعيد صناعة القلوب والمحاولة من جديد حتى تنفتح أبواب الحرية فتنشر أشرعتها على شكل قلوب وتبحر.

يقول ممدوح عدوان وهو يستحضر حالة المجاهد الجزائري الشهيد علي لابوانت قائلاً:

كان علي لابوانت ممنوعاً من رؤية أحياء بلادة

فغزاها بالغضب الفائر 

حتى انفتحت، باباً، باباً

من ضربات عناده.

وهذه إحدى أوضح القراءات لما بعد النص، وهي أن الصغيرة كما يرى قارئ ما  ستواصل صناعة القلوب بعناد وستحميها من كرات الصبيان حتى تنفتح لها أبواب الحرية وحتى تبحر!

( 4 )

مع نص آخر عنوانه (نافذة) وليس (النافذة) تعزيزاً للتعميم ولإدانة الظواهر كما تقدم القول فيه، في هذا النص نجد إحدى بنات أور وقد توقفت أمام سن الأربعين، سن النضج العقلي من وجهة نظر العلم، وسن اليأس من وجهة نظر المجتمع والعادات والقبيلة المتجذرة في عقول ووجدان أفراد هذا المجتمع، وإذا تجنبنا نظرية (موت المؤلف) وراجعنا البيئة الاجتماعية والجغرافية التي كُتبَ فيها النص لوجدنا أنها بيئة يفترض أن تكون متدينة وقريبة من القرآن الكريم الذي يصف عمر الأربعين بصفات إيجابية وافقها العلم، وتخلف عنها المجتمع.

((… حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿١٥﴾ الأحقاف))

وهنا عمر الأربعين يعني قمة القوة والنضج ودرجة الوصول للأخلاق والمعاني العالية، بينما ينظر المجتمع ممثلاً بمن يحيطون بسيدة النافذة/المرأة الأربعينية، ينظرون إليها (وكأنني وصلت للباب الخلفي للحياة/ص25) ليس هذا حسب إنما يشترط هذا الباب الخلفي عليها (ألا أتمادى بأحلامي، ألا أُفْرِطَ بعاطفتي، ألا أسرع بخطواتي، أن أقبل بكل ما يفرضه علي واقعي البغيض/ص25) بل أكثر من هذا فهو (باب سيغلق بعد قليل/ص26) هنا السجن إذن وهنا الرفض أيضاَ، ولاشك أن منظر العاشقين عبر النافذة – وكانت الحبيبة بعمرها وتشبهها- هو انتصار لها، للمرأة ضد من يحيطون بها من سجّانين وصنّاع قيود وأقفال قساة! وتأكيد لقولها أن الأربعين باب بلا مقبض ومعانيه بلا قيد ولا شرط.

( 5 )

عنوان(محاولات فاشلة) تعبير مستهلك وتقليدي ومكون من كلمتين، مبتدأ وخبر، عنوان معرف يخرج عن السمة الغالبة لعناوينها، ويجانب الجودة الفنية، ولا يرتقي للمستوى الفني للنص، ومن هنا يرى القارئ إن عنواناً ما ينبغي أن تمحو هذه الجملة وتحل محلها، لكن ما يعوض عن ركة هذا العنوان جمالية النص وخفاء إشاراته الموحية. إن الحبيب الذي يحمل صفات الجمال ابتلعته الحرب، والحرب يقودها الذكور، فهم مدانون إذن، لأنهم حرموها من حبيبها بتغييبه عنها، وكلهم، كل الموجودين على الرغم من محاولاتها في الاستعاضة عن حبيبها المغيّب فشلوا في تعويضها عنه، كل واحد ممن حاولت الاستعاضة بهم عن حبيبها لم يكن يحمل إلا صفة منه وتنقصه صفات أخرى، لكننا من خلال استعراضها لأولئك وهذا من جماليات النص عرفنا مواصفات الحبيب واسمه!

فهو أسمر وطويل بعينين خضراوين وكان جندياً، واسمه حسن!

بل نعرف صفات أخرى له من أسماء من حاولت أن تحبهم: فهو سالم معافى وجميل وحسن الخلق وكامل الأوصاف وعالي الهمة. 

كل هذه التأويلات والقراءات يولدها نص عميق المعنى ثري الإشارات لا تتجاوز كلماته الأربعين، بل أقل، وهذا من جمال التكثيف وإن بدا للناظر إلى السطح أنه نص واضح وبسيط.

( 6 )

نسوة أمهات وأطفالهن المرضى، هذا هو المشهد العام في نص (تساؤل) الساردة تركّز نظرها على طفلتها المريضة، هن منشغلات عن أطفالهن المرضى بالنظر إليها، وفي الوقت ذاته تفضح زوجها الذي يدفع أطفاله الثلاثة للتسول وعلى الرغم من مرض ابنتها ذات القلب المفتوح -كما يقول النص- يحاول الانفراد بزوجته، بل كان يضربها وهي تمانع وترفض متحججة بمرض ابنتها، والغريب أنه لا يخطئ بضربته أو بالإمساك بها مع أنه أعمى!

وهذا هو مضمون تساؤلها، في مستواه السطحي الأول، لكن القراءة تحت الحمراء تقودنا لما وراء هذا المضمون، لنتساءل: عن سر سطوة هذا الرجل الأعمى؟

وسر قسوته على أطفاله وزوجته وخاصة على طفلته وقلبها؟

بل وتتسع الأسئلة لتشمل كل النساء اللواتي انشغلن عن أطفالهن المرضى أيضاً بالاستماع لقصتها، هل كانت المرأة الأم الساردة توضح لهن للأمهات الأخريات ما هن فيه من عبودية للرجال العميان؟

هل كانت تحرضهن كيف يمتنعن كما تمتنع هي ويرفضن كما ترفض؟

هل إن هذا الامتناع والرفض هو الطريق إلى تعافي الصغار وتحررهم من البؤس الذي يتسبب ويفرضه الآباء العميان؟

هذا النص المكثف يثير أسئلةً تتوالد منها أسئلة، يدين ولا يتوقف عن الإدانة.

( 7 )

ما يكون داخل الإطار عادة صورة أو لوحة، هذا هو المألوف، ولكن أن تكون اللوحة خارج الإطار وبدلاً عنها تكون الرسامة داخل الإطار فهنا المغايرة والانزياح، نقرأ من البدء:(على يمين اللوحة أنا، داخل الإطار، لوحة لم تكتمل بعد/ ص39) يجد القارئ نفسه ومن دون أن يشعر أمام لوحتين، الأولى تلك التي على يمين الساردة/ الرسامة، والثانية هي الرسامة ذاتها داخل إطار!

لوحة لم تكتمل بعد، تقول الساردة، ولكن كيف لها أن تكتمل إذا كانت رسامتها سجينة في الإطار! إطار اللوحة ذاتها، أي مشهد جمالي مركب هذا، رسامة تؤطر وتسجن بالإطار بدلاً عن اللوحة ! ولو افترضنا اكتمال اللوحة كيف ستوضع داخل إطار ممتلئ بسجن الرسامة فيه؟

الإطار هنا سجن، سجن للرسامة، لألوانها وفرشاتها ومصبغتها، وإقصاء للوحتها.

لنتخيل المشهد الآن كما كشفت عنه القراءةُ تحت الحمراء، مشهد لوحة تحتاج لفرشاة رسامتها كي تكتمل، لكن الرسامة مُقْصاة عنها مسجونة، أين ؟ داخل إطار اللوحة ذاتها.

هذه إدانة للإطار الذي يعيق اكتمال اللوحة والذي سيسجن اللوحة إن اكتملت، هذه إدانة للأُطر كلها، ولمفردات التذكير: إطار ساجنٌ وخيال قديم، لكن ثمة صراخ وعويل تقابلها قهقهات لامبالاة وثمة أمل فهناك أبواب تطرق، ستتحرر الرسامة إذن وتتحرر لوحتها، كلتاهما ستحطمان الإطار وستحلقان.

هنا الفن، فن القص، فن الإزاحة المدهشة وتداخل العوالم والمشاهد والإيهام الجميل، وكل هذا في نص قصصي من خمسين كلمة أو أكثر بقليل، هو النص المعنون ب (داخل الإطار).

***

لست ممن يقارن مُبدعاً بغيره، خاصة إذا كان من مبدعي الغرب المحتفى بهم دائماً بحقّ ومن دون حق، لكنني حين أتوقف هنا عن القراءة ولا أود التوقف؛ أقول ومن دون تردد: إنّ نصوص هذا الكتاب/هذه المجموعة، أعمق وأبسط وأكثر سردية وأثرى إشارات بالمجمل من انفعالات أو نصوص ناتالي ساروت وأعلى منها بمسافتين وأجمل.

لقد تمنيت لجمال بعض النصوص وثرائها أن أكون أنا كاتبها.. 

تحية للبصرة ولّادة الإبداع،

لـ(بنات أور) وكاتبتها تحية..

وتحية لهذه الفرادة القصصية النادرة.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply