ألوان من الحرِّيَّة                               

رسوم الأطفال

أمل بورتر 

استحوذت رسوم الأطفال على مخيلة الفنانين التشكيليين وشكَّلت رافداً مهماً في استلهامات الفنون التشكيلية إذ كانت تعدُّ في أغلب الأوقات  لغزاً مبهماً وتُلفُّ بكثير من الغموض والتساؤلات والجاذبية. ولم يقصر أو يتوانَ علماء النفس عن تغليف تلك الرسوم بهالات من التحليلات النفسية المعقدة، وأسبغوا عليها صفات اتسمت بالكثير من الأحاسيس المتضاربة، العاطفية والانفعالية أو العقلانية، الحب والكره والخوف والترقب والانطواء والجموح والحركة والاستكانة والشجاعة، كذلك الرغبات الحسية أو السامية. واستمر هؤلاء بتعقب آثار الطفولة سلبية كانت أم إيجابية على مجمل تصرفات الإنسان البالغ فهي الخطوات الأولى التي تنبئ عن التصرف والتوجه للشباب وبخاصة في مرحلة المراهقة  وتداعياتها.

لأجل معرفة قواعد رسوم الأطفال وأصولها لا بدَّ من التطرق إلى أنَّ دراساتٍ وأبحاثاً كثيرة قام بها المهتمون بهذا الفن وتوصَّلوا إلى قواعد مشتركة عامة بين رسوم الأطفال؛ صنِّفت تلك القواعد حسب أعمار الأطفال بالدرجة الأولى، ثم أخذت بالحسبان الفروقات الاجتماعية والاقتصادية والمناخية والمضامين السياسية والدينية والفكرية، ومن ضمنها القدرات، …إلخ واحتلت هذه الفروقات مكانة مهمة في تحليل رسوم الأطفال ودراستها التي ستقود إلى الأبحات المستقبلية لفهم ودراسة منهجية تطور التفكير والتوجه الذي سيقود الشباب مستقبلاً.

وممَّا توصَّلت إليه الأبحاث التشابه في بعض معطيات رسوم الأطفال والفنون البدائية لقبائل أفريقيا والأوبرجني وجنوب شرق آسيا والماوري وغيرها والرسوم الشعبية الساذجة والعفوية بعامَّةٍ ورسوم البالغين الذين يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية، إذ وجدت قواسم مشتركة تجمع بين الكثير من الخصائص التي اتسمت بها هذه الفنون.

إنَّ السحر والغموض والبراءة والمباشرة والشفافية التي تتسم بها رسوم الأطفال بخاصَّةٍ والرسوم التي تشاركها السمات والمواصفات وتشترك معها في لغة تشكيلية متجانسة اجتذبت حركات فنية خصوصاً المدرسة التكعيبية والسوريالية ومدرسة كوبرا CoBrA كما إنَّها استحوذت على اهتمام كثير من الفنانين الكبار والأدباء مثل آندري برتون، كارل ارب، تريستان تسارا، ماكس ارنست، بيكاسو وبول كلي وغيرهم. وحاول روَّاد هذه المدارس الاستفادة من تجارب نتاجات الأطفال والنتاجات التي تتقاسم معها في العطاء والتعبير التشكيلي واشتقُّوا منها مفردات متعددة، كما بذلوا الجهد ليظهروا روحية العمل الطفولي أو العفوي في رسومهم، واستخدموا تقنيات توحي بقرب أعمالهم من الفكر الطفولي الساذج، ولغةً تعبيرية طفولية مبهمة قد يعود بها علماء النفس إلى اللاوعي والعقل الباطن وتفسرها بعض الفلسفات الآسيوية وفق معتقداتها بالحلول والانبعاث المتواصل.

اتسمت رسوم الأطفال بالخصائص العامة التي تتباعد وتقترب في مفاهيمها وفقاً للمعطيات المختلفة التي تقدَّم ذكرها:

تسطيح الأشكال، إلغاء المنظور، اختلاف الحجوم والنسب  للمفردة ذاتها أو في علاقتها مع مفردة أخرى، النظر من مستوى نظر مختلف في الحيز ذاته، الشفافية التي تظهر الباطن أو داخل المفردات كما في أشعة اكس ورسوم الأوبرجني، عدم وجود خط الارض، المبالغة، الواقعية المغالية والخيال المتناهي، تداخل وتراكم المفردات التي تعوم في فضاء اللوحة وإضافة شروح كتابية للطفل الذي يجيد الكتابة، اختزال وتضخيم، إلغاء الفراغ أو الحشو التراكمي، الجمع بين زمان ومكان مختلفين وبأبعاد متباينة في حيز واحد، التأثُّر الحاد بالبيئة أيَّاً كان مدلولها سواء كانت تسلطية أو احتوائية أو العكس، واستخدام المسطحات اللونية بكرم متناهٍ وإضافة ألوان أصيلة غير واقعية غالباً ما تكون زاهية.

 إنَّ فن الطفل يتطور وينمو مع نمو الطفل عضوياً بأبعاده كلِّها، ففي المراحل الأولى تظهر التخطيطات العشوائية التي لا يحدد لها اتجاه معين، قد يكون دائرياً أو أفقياً أو عمودياً، أو تخطيطاً يجمع هذه الأبعاد ثم تبدأ مرحلة ظهور الأشكال الرمزية والمتكررة، والمبالغة الشديدة في الحجم، وطرح مواضيع ذات مضامين يصعب تعقبها منطقياً، وبعدها يحاول الطفل التقليد ولكنه يفسر الأشكال التي يحاول تقليدها وفقاً لمنظوره الفكري والهندسي. ولا يجب أبداً أن نغفل حجم الطفل وبخاصة طول قامته بالنسبة إلى ما يحيط به من عالم الكبار، فأغلب ما يحيط الطفل في  مجتمعه من أثاث وبنايات وغيرها صُمِّم ليلائم حجم الإنسان البالغ، ومستوى نظر الطفل هنا يتأثر بالفرق بين ما يحس به بالنسبة لطوله هو وما هو أمامه من أشكال هائلة الحجم قياساً بحجمه، ولهذا تتولد في نتاجات الطفل التشكيلية تناقضات حادة لكل ما يخص النسبة والتناسب.

خلال تطور الفنون التشكيلية من أسلوبها الأكاديمي الكلاسيكي فكرة ومضموناً وتقنية إلى رؤية جديدة ظهرت بشكل صارخ في المرحلة الانطباعية التي جاءت نتيجة لتراكمات  في الاختراعات العلمية وأهمها تطور العدسات والبحوث في ماهية الألوان، ونتيجة لتطورات اجتماعية وازدياد التأكيد على الحريات الفردية ووعي فكري نحو المساواة بين الجنسين  وتحولات سياسية حادة، هذه المعطيات ولدت مدلولات جديدة وآليات لتنفيذ الأفكار التشكيلية والمواضيع بقوالب مبتكرة صميمية ومتفردة وأساليب غير مطروقة.

في أغلب الأحيان قوبلت هذه التجارب بكثير من الدهشة والاستنكار من المؤسسات الرسمية الفنية والنقاد، إلَّا أنَّ استمرار الفنانين التشكيليين على متابعة التجديد والسير مع التطور السريع للفكر والعلم ومحاولة مواكبة ما يحدث على الساحة الأدبية من ممارسات جدية جديدة جعلت الفن التشكيلي يأخذ أبعاداً غير متعارف عليها. ظل الفنان التشكيلي يمر بمراحل من التجارب والممارسات التي أغنت تجربته الفنية ودفعت به في أغلب الأحيان  إلى خوض دروب ومسارات مجهولة. هذه العوامل جعلت الفنان التشكيلي يرضخ لفكرة البحث والاستقصاء حول جوهر الفكر الإنساني وكيفية تطوره أو عدمه وما هي التراكمات التي ستقود الطفل خلال مرحلة البلوغ واتخاذ قرارات  قد تكون مصيرية إيجابية أو هامشية وسلبية ، ومن ثم توالي وتراكم التجارب الفردية أو لمكونات كبيرة اجتماعياً أدَّت بالتالي إلى التغير في المجتمع. 

 

إنَّ اهتمام الانطباعيين بالتغيرات اللونية وانعكاسات الضوء وفقاً للمتغيرات المناخية والطبيعية جعلتهم يولون الألوان اهتماماً خاصاً وظهر لنا اللون الأخضر والأزرق بلوحات سيزان والأصفر بدرجاته المتعددة في لوحات فان كوخ، وكذلك علاقة  اللون الأصفر بالألوان الأخرى. ويقال إنَّ فان كوخ كان يشتري أصواف الغزل بألوانها المتعددة ويحاول ترتيبها بأشكال مختلفة ليستنتج علاقة اللون الواحد بالآخر، فضلاً عمَّا للون الأصفر من بعد ديني روحاني في النتاجات الفنية  في مرحلة معينة والتي تصطبغ بالبعد المسيحي، كما إنَّ هناك أبعاداً اجتماعية تسبغ على الألوان أيضاً الأرجواني للسلطة المطلقة والأحمر للوله والعشق والأزرق للأبعاد الروحية. هنا نجد أنَّ دراسة الأعمار التي تستخدم اللون كتعبير عن منحى معين أصبح له في علم الاجتماع أهمية كبرى. 

واصل الفنان التشكيلي سعيه للوصول إلى ممارسات جديدة واستلهامات متفردة غلب عليها الطابع الفكري في المراحل التي تلت الانطباعية ونتيجة تراكمات اجتماعية وسياسية وحتى الاحباطات التي عانت منها الكثير من المجتمعات الأوربية، تحوَّل الفنان بفكره إلى الدخول في عوالم غير مطروقة سابقاً وبدأ اهتمامه بالفكر الواعي واللاواعي، وظهر هذا المنحى بشكل واضح في المرحلة السوريالية وأخذت الأتمتة في إنتاج الأعمال الأدبية والتشكيلية تحتوي مذاقاً خاصاً وقبولاً متزايداً من قبل الفنانين، كما أعطيت للأحلام مكانة مهمة في النتاجات الأدبية والتشكيلية، وأُوليَ السحر الكثير من الاهتمام، وأصبح الاهتمام بنتاج المصابين بالفصام يحتل حيزاً كبيراً من نتاجات  السورياليين وقادهم هذا الطريق إلى الفنون الساذجة والبدائية وفن الأطفال إلى عمر المراهقة إذ وجدوا في هذه الفنون لغة تعبيرية مثيرة جداً إذ احتوت على الرمز والمجهول والمدهش والتلقائية والعشوائية والعفوية والعبث والانفعالية والبراءة.

مدرسة كوبرا التي بالرغم من قصر عمرها كمجموعة تركت أثراً مهماً في التعبير التشكيلي إذ كانت النتاج أو الابنة الشرعية والوريثة الحقيقية للأفكار التعبيرية التجديدية التي حملت رايتها السوريالية عالياً، وبالنظر إلى أعمال الفنانين الذي تبنوا هذا المنحى نجد أنَّ هذه المحاولات جادة تماماً ولها خصوصيتها من ناحية التنفيذ والمضمون واستخدام الأداة التعبيرية والتقنية واللغة التشكيلية.

من أعضاء مجموعة كوبرا CoBrA)  ) نجد أسماء مثل كارل ابل، يوجين براندز كونستانت، كورنييليي، جان نيوواينهاوس، انتون روسكنس وغيرهم في بدء هذه الحركة أطلق عليها الحركة التجريبية في الفن، وكانت البداية على شكل معرض للمجموعة تلته مجلة تصدر باللغة الفرنسية في بلجيكا من قبل الشاعركريستيان دترمونت الذي اختاراالاسم الذي يمثل الأحرف الأولى من أسماء العواصم كوبنهاكن وبروكسل وأمستردام وكذلك ليمثل بعداً أسطورياً ليبقى حياً في الأذهان، وكان يريد أن يكون العنوان  استحواذياً وخرافياً ومسيطراً على الأفكار بمحتواه الوهمي، ولفظة كوبرا ترتبط بالأفعى التي تدور حولها الأساطير وتحكى عنها قصص خرافية ترتبط بمثولوجيا قديمة جداً.

في شهر تشرين الثاني من عام  1948 قام مجموعة من أعضاء جمعية الفنانين الدنماركيين (هوست) مع فنانين من السويد وهولندا أول معرض لهم، وهذه المجموعة ذاتها بعد شهر من إقامة المعرض أصدرت المجلة التي كانت البداية لخلق أسطورة الكوبرا. ولكن اسم الكوبرا لم يطلق على هؤلاء التشكيليين من قبل النقاد والمؤسسات الفنية بل ظلوا يعرفون باسم التجريديين أو التجريبيين، ولكن المقالات التي كانت تظهر في المجلة كانت تشير إلى أنَّ المجموعة تسمي نفسها الكوبرا والغاية من هذا التجمع التشكيلي لرفض ونبذ، تذوق أو قبول- التفسيرات المبالغ فيها للتنظيرات في الفن لذا فالغاية ليست الوحدة في العمل التجريبي المنظم بل بث روح جديدة في الفن من خلال القسوة في إعادة التعريف والوسيلة والتنفيذ، وكذلك لمنح الفن نفحة من النسيم وتصفيته دون رحمة من عقدة الشعور بالنقص. 

في وصف للمضمون الجديد الذي تبنته مجموعة الكوبرا يقول كارل ابل:

 نحن نبذل الجهد ونريد التحرر من تراث يزيد عن ألفي سنة من الفن الأوربي، وبرغم اطلاع  المجموعة على أعمال بيكاسو ووماتيس وبينون وتأثرهم بها إلَّا أنَّ روحية الأعمال كانت محلية صميمية بنفحة خاصة من أمستردام وكوبنهاكن وبلجيكا إذ إنَّهم قد ولدوا وقضوا سنوات شبابهم في تلك الأجواء وتشبَّعوا فيها ولم تكن أعمالهم مستوحاة من الإنسان الأوربي البالغ  فقط بل العكس تماماً كان هدفهم الإنسان في طور النمو والبلوغ .

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply