الفاو: مدينة البحر والأنهار

جابر خليفة جابر

كأنما أرجوحة بين نخلتين، إحداهما في رأس البيشة عند الساحل الأعلى للخليج العربي وأختها عند المعامر على ضفاف شط العرب، هكذا كانت الفاو وكنا بخضرائها نهنأ ونتأرجح..

مدينة متفردة من بين مدن العراق وربما كل الخليج العربي بتآلف أهلها مع بيئتين: الأولى والأكثر تأثيراً، بيئة النهر والخضرة والظلال الوارفة والماء العذب، ممثلة بشط العرب وعشرات الأنهار المتفرعة منه ومئات وربما آلاف الجداول والسواقي/ الشاخات..

والثانيةُ بيئة البحر والملح والسباخ وسفن الصيد والبحارة والأفق المفتوح. بساحلين، الخليج العربي جنوباً وساحل خور عبد الله غرباً، ولعلها المدينة الوحيدة في العراق والخليج العربي التي تجمع بين النهر والبحر، مدينة خضراء بامتياز ومنفتحة على العالم من دون حدود.

بيئتان وبشر من منابع شتى، عرب من العراق ونجد والبحرين وساحلي الخليج، وهنود وعجم وكرد وتركمان وأرمن وسريان وآشوريين وزنوج، مسلمون من مذاهب شتى ومسيحيون لعدة كنائس وهندوس قلائل ودراويش وبحارة وقباطنة  إنكليز وهولاند وأوربيون، وبواخر عملاقة تطلق صفاراتها عند الرسو تحية وعند الإقلاع، وعند ليلة رأس السنة الميلادية تطلقها، مدينة لها من التمدن نصيب كبير وفيها من الأماكن خاصة كامب الميناء ما يضاهي جمال المدن الأوربية من نظافة الشوارع وتناسق الأشجار الباسقة على جوانب الطرق والحدائق وانتشار الورود ولا تكاد تشعر بشدة القيظ فيها ولا برطوبتها العالية مع أنهار طافحة بالمد والجزر وأرياف تسحرك بجمال الطبيعة فيها بمائها وفواكه بساتينها ونخيلها ووجوه أهلها المبتسمين، إن افتقدت الأخلاق والتسامح والتحضر فستجده عندهم فائض وبهيج.

وهذا ذاته، الأخلاق ذاتها واللين والتسامح وفيوض المحبة ستجده عند شقيقتها الكبرى ( أبو الخصيب ) بل وهذا راجح أن الفاو إنما استقت جمال خصالها من أبي الخصيب وزادت عليه بميزة سيندهش القارئ ويحير الباحثون في تعليله وهي حداثة عهد هذه المدينة التي يتجاوز عمرها 100  عام بقليل وما كانت قبله سوى مزارع وفلاحين ونقطة عسكرية عثمانية وتلغراف متصل بالكابل البحري الممتد إلى الهند، بينما يمتد عمر أبي الخصيب إلى أكثر من ألف عام وهو زمن كاف وأكثر لصهر أبنائها في بوتقة واحدة من حيث العادات والتقاليد والمظاهر، لكن أن يشكل مجتمع مكون من أطياف شتى – عرقياً ودينياً ومذهبياً – مزيجاً بشرياً متآلفاً ومتحاباً بشكل مدهش وعجيب حتى أن البصريين وهم عنوان الطيبة والمحبة إن أرادوا مدح طيبة رجل ما أو امرأة قالوا : طيب من أهل الفاو أو طيبة من أهل الفاو، فكيف حقق المجتمع الفاوي هذه المنزلة الأخلاقية العالية من التحضر ؟ هذا ما أقف حائراً أمامه أنا المولود والمترعرع حتى فتوتي في الفاو! في الفاو لم أر يوماً أية مظاهر عشائرية أو قبلية، لا أهازيج ولا سرادقات ولا ديات ولا عمليات ثأر أو مشاكل تذكر، مع أن الكثير من أبناء الفاو هم من أصول قبلية ومناطقية مختلفة كما بينت.

فلا تندهش – في زمان العنف أن ترى تسامح الفاوي مع من أساء إليه، بل المعتاد أن يرد  بابتسامة وبجميل الفعل، نعم كما ذكرت فإن الفاويين طيبون حد الإعجاز وإلى درجة يقف معها الباحث وحتى عالم الاجتماع معها حائراً وهو يحاول كشف سر هذه الطيبة لمدينة حديثة التكوين قياساً إلى مدن البصرة الأخرى، ومجتمعها منذ تشكله أواخر القرن التاسع عشر وربما من منتصفه وحتى سنة الخراب 1980 كان مؤلفاً من شرائح شتى وأديان ومذاهب وقوميات وأعراق ومدن مختلفة ومع هذا فهو متآلف تآلف الأخوة والأحبة.

هكذا هي الخلفية الثقافية والاجتماعية لمدينة الفاو ..

في تلك المدينة وفي أريافها وعلى سفنها وزوارقها يكثر استخدام مفردة (حبّوبي) للتخاطب بين الناس وتستشعر مع تلفظهم نغمة من المودة وسلامة النية كأنهم يُودِعون مع حروفها بعضاً من أرواحهم الندية ..

وإذا كانت هذه المفردة من امتياز اللهجة البصراوية وحدها، يقولونها بمحبة لبعضهم ولكل الناس، والفاو ضمنها طبعاً، لكن اختصاصاً آخر تنفرد به الفاو لوحدها من دون البصرة مدينتهم الأم، فلو سمعت أحدهم ينادي صبياً أو بنتاً باسمه واسمها مضافاً إليه حرف الواو هكذا: أحمد = أحمدو / كريم = كريمو/ سعاد= سعادو/ إيمان = إيمانو.

 لو سمعت هذه الواو الجميلة المحببة آخر الاسم فاعرف أنك في أجواء الفاو ومع أهلها، فهي شقيقة حبوبي البصراوية إنما يختص بها الفاويون، وربما قالها الخصيبون أيضاً وفلاحو جنوب شط العرب بضفتيه الخضراوين.

وقد حضرت معي هذه الواو الجميلة في جامعة بغداد، في ندوة عن روايتي مخيم المواركة أقامها القسم الاسباني في كلية اللغات بباب المعظم، حين سألني أحد الحضور عن سبب اختياري الموريسكيين الأندلسيين موضوعاً للكتابة، ولم أكن متوقعاً سؤالاً بهذا المعنى، ولم يسبق لي أن فكرت فيه، فقلت:

ربما اخترتهم لأنني من الفاو، والفاويون يضيفون الواو إلى أواخر الأسماء تحبباً كما يفعل الموريسكيون ومعهم الأسبان والبرتغاليون هكذا: رونالد = رونالدو/ القشتالي= قشتيليو/ كريستيان= كريستيانو.

الفرق بيننا وبينهم في إيبيريا أن هذه الواو في الفاو لم تزل مفعمة بالمحبة ولم تفقد طراوتها لأنها لا تضاف إلا في وقتها، بينما الواو المضافة للأسماء الاسبانية والبرتغالية تعد من أصل الكلمة، فهي موجودة مع الاسم في الوثائق الرسمية ولاصقة به في كل حالاته، مقبولاً أو مرفوضاً، محبوباً أو مكروهاً، بينما لا يقولها الفاوي ولا يمنحها لأحد إلا مع منزلة المحبة والطيبة والحنان وما أكثرها فهي عندهم كمياه شط العرب فياضة متدفقة، أنقى وأكثر.

وثمة فرق آخر هو أنهم في اسبانيا والبرتغال يخصون أسماء الذكور فقط بإضافة الواو، بينما نضيفها نحن للجنسين معاً.

وربما اخترتهم ( الموريسكيين) لأن مدرستي الأولى كان اسمها( مدرسة الأندلس ) ومدرستي الابتدائية الثانية كان اسمها ( مدرسة عبد الرحمن الداخل) هذه ( ال ربما ) لا تكتفي بما تقولهُ، فهي تشير إلى المخفي وما لم يقل أيضاً، تفتح الاحتمالات وتثير التأويل ولا تتوقف..، فكيف تحلّى اللسان الفاوي بهذه الواو الجميلة ؟

لا أحد يمتلك إجابة دقيقة، السومريون هم أهل الواو كما قرأت فهل بقيت الواو السومرية مع الفاويين وجنوب البصرة دون غيرهم من العراقيين ؟ ! هذا ما لانملك إجابة قاطعة عليه، ولكنه احتمال وارد وبقوة، وقد يكون البحارة أو الفلاحون الأوائل أو موظفو التلغراف في الفاو قد تأثروا بالبرتغاليين الذين تواجدت سفنهم في الفاو وشط العرب في القرن السادس عشر، وكانت تعاملهم لطيفاً مع أهل البصرة عموماً على خلاف ما ارتكبه البرتغاليون من جرائم في عموم البلاد التي افتتحوها ومنها موانئ خليج عمان والساحلين الغربي والشرقي للخليج العربي وجزره، إذ دخلوا البصرة بسلام يثير الاستغراب ويستفز الباحث إن انتبه له، وقد يفسر سبب هذه المعاملة المختلفة والأسلوب البرتغالي الهادئ وغير المعتاد حكاية متداولة تقول :

أن قائد الأسطول البرتغالي المتواجد في الخليج العربي أرسل جاسوساً إلى البصرة ليستطلع حالها وقوة حاميتها قبل الهجوم عليها، كما يفعل عادة قبل أي احتلال على امتداد الساحل الغربي لأفريقيا ووصولا لسواحل الهند والصين، ويقال أن هذا الجاسوس البرتغالي تأثر بكرم البصريين وطيبتهم معه، ويقال أن أوج تأثره كن ساعة خرج من بيته ذات صباح ليشتري إفطاراُ( الإفطار = الريوك أو الريوق باللهجة العراقية، وأصلها فصيح ومشتقة من الريق)  فقصد حانوتاً وطلب قطعة قيمر أو زبدة لكن صاحب الحانوت بعد أن ابتسم بوجهه وحياه بلطف اعتذر منه ورجاه أن يشتري من الحانوت المجاور، فاستغرب البرتغالي وبحكم مهنته اوده الشك، ترى هل عرف هذا الحانوتي هويته فرفض التعامل معه، لكن لهجته ودية كانت، تساؤلات سريعة مرت بذهن الجاسوس و أراد أن يعرف، وسأل الحانوتي عن سبب امتناعه عن البيع مع وجود المطلوب عنده.

فكرر الحانوتي البصري الاعتذار وقال له: أنه قد استفتح لكن جاره لم يستفتح بعد، ولم تتقبل نفسه أن يبيع هو مجدداً بينما جاره لم يبع شيئاً بعد.( والاستفتاح هو أول عملية بيع في الصباح وعادة يتفاءل بها الباعة )

هذه الحادثة وما رآه البرتغالي ولمسه من البصريين دفع به لكتابة تقارير إيجابية عن البصرة وأهلها واقترح التفاوض والاتفاق مع حاكمها على حل سلمي وهذا ما تم فعلاً في زمن افراسياب في القرن السادس عشر للميلاد.

وبالفعل دخل البرتغاليون البصرة مَدنياً وأسسوا كنائس أو أديرة للآباء الكرمليين ولم يعانِ أهل البصرة سوى ما جرى من التباس فهم البرتغاليين مع البصريين من طائفة الصابئة المندائيين إذ ظنهم الآباء الكرمليون من المسيحيين لما رأوه من تعمدهم بالأنهار واتخاذهم ( الدرفش أو الدربشا) وهي راية الصابئة الروحية النورانية ويشببها تقريباً شكل الصليب، وقلت يشبهها ولم أقل تشببه لأن الدرفش هو الأقدم زمنياً وله الأسبقية، وبذل القساوسة والرهبان الكاثوليك جهودا وفقا لفهمهم الخاطئ لتصحيح طقوس الصابئة باعتبارها هرطقة مخالفة لتعاليم الكنيسة ومعتقداتها وبذل الروحانيون الصابئة جهوداً مضنية بالمقابل لإقناع القساوسة أنهم ليسوا نصارى وانما هم أتباع دين توحيدي ابراهيمي من أقدم الأديان العراقية، وتعرضوا بسبب تمسكهم بدينهم لنوع من الاضطهاد.

وغير هذا لم تشهد البصرة أي قسوة أو تعنت من البرتغاليين الذين كانت سفنهم ترسو قبالة الفاو وفي ميناء البصرة أيضاً، خلافا للعشرات من المدن والموانئ التي دمروا عمرانها وقتلوا أهلها وسبوا نساءها، ولعل الكثير لا يعرف أن أقسى وأبشع وأعنف “استعمار” شهدته قارات أفريقيا وآسيا والأمريكيتين هو الاستعمار البرتغالي حتى أنهم حين يطلقون سراح امرأة أو رجل مسن لا يتركونه هكذا سالماً بل يقطعون أنفه أو أذنه أو أصابعه بوحشية لا نظير لها إلا عند من ورثوا بشاعة محاكم التفتيش وهم الإسبان والبرتغال..

ولست في حال وترف من الوقت يمكّنني من البحث عن مدى صحة الحكاية ومن هو ذاك الجاسوس البرتغالي الجميل كما أسميه، وحين تنقصني الوقائع المتيقنة والوثائق لابد لي من اللجوء إلى ( ربما) وتأويلاتها؛ وهنا يحضر أمامي كتاب من الموسوعة البرتغالية بعنوان ( تأريخ الخليج والبحر الأحمر في أسفار بيدرو تخسيرا) وورد في مقدمته أن بيدرو هذا كان يهودياً وتنصّر هو أو أسرته، ورافق الأسطول البرتغالي الذي عاث في السواحل الأفريقية والعربية والآسيوية قتلاً وفساداً ولعله رافق الأسطول تحاشياً لمحاكم التفتيش المرعبة التي كانت تستهدف المسلمين واليهود المجبرين على التنصر، فهرب كما هرب العديد من أخوته المارانوش ( المارانوش= الخنازير، وهم اليهود المنصّرون كما يسميهم الأسبان باحتقار) والكثير من الموريسكيين أيضاً ومنهم الملاح الشهير ” رودريغو دي تريانا” وهو موريسكي أندلسي يخفي إسلامه فخرج مع كولمبس في رحلة اكتشاف أمريكا وهو أول من رأى الأرض الجديدة، وله تمثال الآن في إحدى ساحات أشبيلية، وعندما كان روديغو مبحرا مع كولمبس كانت محاكم التفتيش الإسبانية تحرق أبيه لأنه حاول إنقاذ يهودي من بطش محاكم التفتيش وأخفاه في بيته. 

 ونعود إلى صاحبنا بيدرو تخسيرا الذي سكن البصرة حيناً ومنها عاد إلى  النجف وكربلاء وبغداد ثم إلى بادية الشام وساحل المتوسط حتى أوربا لكنه لم يعد إلى البرتغال وإنما سكن في مدينة انتويرب البلجيكية وهناك ألف كتبه وفيها توفي.

وهذا ما دعاني لأطرح احتمالاً بأن يكون صاحب هذا الكتاب بيدرو تخسيرا هو ذلك الجاسوس البرتغالي الذي أحب البصرة وعمل على إنقاذها، خاصة وأنه كان يشعر بقسوة البرتغاليين وبطشهم بالبلاد التي يحتلونها، وربما دفعته معاناته وطيبة البصريين للتعاطف معهم، ولا ننسى أن اسم البرتغالي بيدرو تخسيرا تحلى آخره بالواو أيضاً، لكنه لم يعد لا إلى بلده البرتغال ولا لإسبانيا.

ومن أمام المكان الذي مرت به السفينة التي أقلّت ( بيدرو تخسيرا ) للبصرة، على ضفاف شط العرب في الفاو، تقع مدرستي الأولى ( مدرسة الأندلس الابتدائية للبنين) في مركز الفاو تحديداً، حوز السوق وهو يقع بين نهر القائمقامية ونهر الجبيلة، على ما أتذكر وما أكثر الأنهار في الفاو..

أنهار كثيرة، كلّها طافحة بالمياه وتتجدد، يملأها المد مرتين كل نهار ويسقي بساتين النخيل وما يتظللُ بالنخيل من فواكه وخضراوات، ويطهرها الجزر مرتين فيعمل عمل البزل ويسحب الأملاح إلى شط العرب ومن ثم إلى الخليج، وكل هذه الأنهار تتفرع من شط العرب، ومن الأنهر تخرج جداول، ومن الجداول سواقي، تلتقي السواقي ببعضها وتتوزع، وبين هذه الأنهر وتلك الجداول والسواقي تسكن بيوتنا وتطمئن، ثمة ماء عذب وثمة خضرة وظلال، وقلوب أهل الفاو سواقي أيضا تلتقي ببعضها وتتعانق، دار تعانق أخرى وزقاق يوالف أزقة و حوز ينتمي للأحواز الأخرى عبر حوزين يجاورانه، أحدهما عن جنوبه وشقيقه الآخر عن شماله، وتمتد الأحواز وتمتد معها الأنهار من شمال الفاو وحتى جنوبه، حيث رأس البيشة أو حوز “التايه” وهو الحوز الأخير المحصور بين ساحل الخليج وشط العرب.

بين كل نهر ونهر مساحة  تسمى حوز، وكان مركز مدينة الفاو هو حوز السوق أو حوز المركز أو حوز القائمقامية، تعددت أسماؤه لكن اسمه الرسمي: حوز السوق، وما بعده نحو الخليج العربي ثمة حوالي 30 حوزا تمتد إلى أقصى الجنوب، وإلى يساره حوز الجبيلة وما بعده العديد من الأنهر والأحواز تمتد حتى قرية المعامر وبعد المعامر قرية المخراق وهكذا وصولا للسيبة المقابلة تماما لمدينة عبادان على الضفة الشرقية لشط العرب.

وكنا نسكن في هذا الحوز، في شارع الحاج علي القصاب تحديداً وحدث في سنة 1964 أن سجلتني أختي الكبرى في مدرسة الأندلس الابتدائية، خرجنا من الإدارة وكنت أمشي وأتلفت خلفي وأختي تجرني جراً وعيني مركزة على (الكوسج) المحنّط في فناء المدرسة عند باب الإدارة تقريباً.

والكوسج: هو القرش إنما بلغة أهل الفاو والبصرة وخليجها العربي، ودار في أحد مجالس الفاو أو في مقهى الأدباء هناك حديث عن أي التسميتين أصح: الكوسج أم القرش؟

فكانت خلاصة الحوار الثقافي الممتع أن الكوسج وهي معربة قد وثقها ابن منظور في لسان العرب، وقال : سمكة في البحر تأكل الناس، وقال الجوهري: سمكة في البحر لها خرطوم كالمنشار.

والقرش: عربية ذكرها ابن منظور أيضاً وقال نقلاً عن عبدالله بن عباس: هي دابة تسكن البحر تأكل دوابه، وسميت قبيلة قريش بهذا الاسم لأن كل قبائل العرب تخافها، وفي هذا المعنى قال الشاعر:

( وقريش هي التي تسكن البحر، بها سميت قريشٌ قريشا)

وهذا يعني أن كلتا التسميتين تصحّ.. وعندي أن وصف الكوسج كما ورد عند الجوهري وابن منظور أكثر ملائمة وانطباقا من وصف القرش !

وحتى كلمة (الدخس) وهو الاسم الذي نطلقه على الدلافين التي تمخر مياه شط العرب قبالة شواطئ الفاو وكنا نستمتع بمشاهدتها تغطس وتظهر بعد دقائق لتطلق نافوراتها وهي تتجه إلى أعالي شط العرب أو عائدة تجاه الخليج العربي هو اسم موثق في لسان العرب؛ .. وقال: الدخس، .. دابة في البحر تُنجي الغريقَ تمكّنهُ من ظهرها ليستعين على السباحة وتسمى الدلفين. وكلتا التسميتين صحيحة.

وقد شاهدت على رصيف الكورنيش مرة وأنا عائد للبيت من مدرستنا (الدخس أو الدولفين) مطروحاً على رصيف الشط وقد تم اصطياده وكان فضلاته شبيهة تماما بروث البقر ولون جلده أسود أو يؤاخي السواد وبقينا أنا وبعض الصغار نتفرج لدقائق ونستغرب جدا أن تكون هذه السمكة الكبيرة المخيفة هي ذاتها الدخس الجميل الذي يطلق النافورات البديعة المتتالية وينقذ الغرقى ويحبّ الأطفال.

وأمام الباب الرئيس لمدرستنا ترسو سفن الصيد الخشبية اللنجات، وثمة سفن خشبية أخرى لكنها كبيرة وتحمل أشرعة وصواري عالية نسميها ( البوم ) ترسو على مبعدة من الكورنيش ولم تكن تسمية الكورنيش معروفة حينها، أغلب بحارة الأبوام كانوا من الهنود، هذه السفن الكبيرة تحمل بالتمور، تمور الزهدي الرخيصة، أهل الفاو وأغلب البصريين لا يأكلون الزهدي عادة، يبيعونه أو يصنعون منه الدبس، وما زاد يرمى للمواشي، ملك التمور هو البرحي، كما أن الزبيدي هو ملك الأسماك في الفاو، وأطيب البرحي هو برحي الفاو ثم يأتي برحي أبي الخصيب ثم برحي شمال البصرة صعوداً إلى الفرات الأوسط، وأما أمراء التمر ووزراؤه فالقنطار والبريم والساير و تطول القائمة وعند ذيلها الزهدي، وما لا يباع للهنود من الزهدي يحمل إلى المدابس المنتشرة بين بساتين النخيل، يكدسونه في أحواض مستطيلة، قاعدتها أعلى من الأرض بنصف متر وارتفاع الحوض متر أو أكثر، ثم يغطونه بحصائر القصب ويثبتونها بالأثقال، ولكل حوض إسمنتي من الأسفل فتحات للمرازيب يسيل منها الدبس ويملأ صفائح التنك، يسيل الدبس من المرازيب بفعل أشعة الشمس وليس بالتسخين بالنار كما هو موجود في كل مصانع التمور، فيقوم الفلاح أو أحد أفراد الأسرة باستبدال الصفيحة الممتلئة بأخرى حتى ينضب الحوض تماماً فيفرّغ من بقايا التمر ويملأ بتمر جديد، هذا الدبس الذي افتقدناه منذ غادرنا الفاو وحتى الآن هو أطيب وألذ دبس تذوقته سواء في العراق أو في العالم فهو يتجمد في الشتاء لشدة نقائه وكثافته إلى درجة تحتاج معها إلى آلة معدنية قوية لأخذ أي كمية من الصفيحة.

ولي مع صفيحة الدبس ( التنكه) وتجمده في البرد حكاية طريفة، كنت بعمر عشر سنوات أو أكثر حين حاولت الصوم مع الأهل لأحظى بالمزيد من حنان أمي واستشعر تفطّر قلبها من أجلي ولأنال مديح الوالد لي وافتخاره أمام الجيران وأيضاً لأجلس معه وهو يهتم بي على مائدة الإفطار وأمي تضع أمامي أصناف الحلوى والطعام، ولا أتذكر كم يوماً صمت فقد كانت أمي تلح علي بأن أفطر وكذلك أبي إنما بدرجة أقل وغالباً كنت أستجيب بعد تمنع، ولكنني في الأيام التي “صمتها” وهي قليلة لم أكن أقوى على مقاومة الجوع، فالوقت شتاء والبرد قارس وقاس وهداني خيالي لحيلة طريفة، فقد كان بيتنا مبنياً من الطابوق ومجهز بالماء والكهرباء وهكذا كانت أغلب بيوت مدينة الفاو، خاصة مركزها الممثل بحوز السوق وحوز الميناء والجبيلة ومنطقة الكمالية والمعتقل ودور شركة نفط البصرة بي بي سي.

كان حمامنا يتكون من قسمين، الأول نسميه المنزع وهو لتعليق الملابس والمناشف ومستلزمات الاستحمام والقسم الآخر مخصص للاستحمام، وكان رفاق أبي في العمل من الفاو الجنوبي يهدونه كل عام صفائح تمر أو دبس، وفي العام الذي صمت رمضان فيه كان لدينا صفيحتا دبس إحداهما في المطبخ بمتناول اليد، والثانية خزنها أبي في المنزع، وهنا تفتق ذهني عن حيلة للبقاء صائماً في نظر الأهل وتفادي الجوع بالوقت ذاته فصرت استحم أو أنتهز الفرص لدخول الحمام في كل يوم أصومه واختلي بالصفيحة، وأحيانا استحم أكثر من مرة، لكن مشكلتي الكبرى كانت مع الدبس المتجمد (أو الصاك بتعبيرنا) إذ كنت أبذل جهداً وأعاني وأنا أحاول اقتطاع قطعة ولو صغيرة من ذاك الدبس العصي وما ألذّه..

سنة حكايتي مع الدبس تلك شهدت حكاية أو حادثة أخرى صغيرة لعلها القدم الأولى تجاه مقهى الأدباء، فثمة حوادث بسيطة قد لا تعني لغيرك شيئاً لكنها لسبب ما يخصّك أنت وحدك تنتقش في قلبك وذاكرتك وتبقى إلى ما شاء الله وربما ترافقك حتى آخر العمر، ومنها ما جرى معي في ضاحية ما من ضواحي الفاو، أمام بوابة المبنى المؤقت لمدرستنا (عبدالرحمن الداخل الابتدائية) والتي أسست حديثاً من رحم مدرستي الأولى ( الأندلس الابتدائية) كنت في الرابع الابتدائي ولا أتذكر السبب الذي دفع أبي ليعطيني قلماً فخماً ماركة (باركر 21 ) مما لا يقتنيه عادةً إلا الذوات والمعلمين، ولاشك أن الوالد حصل عليه كهدية من أحد القباطنة الأجانب الذين يرتبط بعلاقة مع العديد منهم بحكم عمله في نادي الميناء، وكنت احتفظ بهذا القلم كشيء ثمين وأتفقده بين حين وآخر، أمشى وأخاتل الآخرين لكي أخفض بصري وأراه مثبتاً بجيب قميصي، وبداخلي أشعر بالزهو والافتخار لأنني أملك قلم باركر بينما ليس لدى زملائي سوى أقلام حبر عادية أو أقلام جاف.

ولكن أنى لفرحةٍ ولو صغيرةٍ أن تستمر طويلاً، هكذا رسمت الحياة بمزيج من ألون الحزن والفرح والفراغات..

شاكسني أحدهم وانزلق القلم إلى بركة آسنة وغاص في الوحل، بحثت عنه بلهفة وتلطخت ملابسي المدرسية ويداي وكتبي وبكيت بحرقة، بكيت لفقدان قلمي الجميل ولخوفي من تأنيب أبي ولومه لي، ورآني المعاون وهو الأستاذ صالح حبيب مكي بهذه الحال فخفف عني ونظف لي ملابسي وغسل وجهي ثم أعطاني قلمه، ولم يكن باركر لكنه جعلني أكف عن البكاء ووسط شهقات النشيج المر جعلني ابتسم، زرع بقلبي  من فرط حنانه وأبوته محبة له أنستني قلم الباركر 21، وما زلت أحفظها له – تلك المحبة – في قلبي وذاكرتي وإلى الآن.

منذ ذاك اليوم كلما أمسكت قلماً لأكتب أرى وجهه المبتسم: المثقف الموسوعي المربي والمعلم والأديب:  صالح حبيب مكي رحمه الله وطيّب ثراه.

@ فصلٌ من كتاب …

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply