حكايتان من تاريخ شفوي

عبدالزهرة زكي

يروي مؤرخو شعرنا القديم أن النابغة الذبياني لم يصوّب إقواءً جاء في قافية أحد أبيات قصيدته الشهيرة (أمن آل مية رائح أو مغتدي) التي قيلت في وصف (المتجرّدة) زوجة النعمان وبطلب من النعمان نفسه (؟) إلا بعدما زار يثربَ، وجرى في هذه الزيارة تنبيهه إلى الإقواء

:الإقواء هو اختلاف في حركة الروي. وحسب الروايات فإنه كان في البيت

               زعمَ البوارحُ أنّ رحلتَنا غداً                         

                                       وبذاك خبّرنا الغرابُ الأسودُ 

فحرف الرويّ هنا مضمومٌ بخلاف ما يجب أن يكون عليه من كسر، بموجب هذه القصيدة الدالية

في يثرب لم يجرؤ أحدٌ على تنبيه النابغة إلى خطأه، تقديراً وإكراماً لمنزلته، فاستعانوا بمغنيةٍ؛ غنت بحضرته، فكانت تمدّ حرف الروي لتُظهر الكسرة ياءً، وحتى إذا غنّت (وبذاك خبّرنا الغرابُ الأسودُ) فإنها مدّت بصوتها فكانت الضمة واواً، مما نبّه الشاعر لخطأه، فصوّب عجز البيت كالتالي: (وبذاك تنعابُ الغرابِ الأسودِ

النابغة هو محكّم شعراء العرب ما قبل الإسلام، وكان التحكيم إجراءً نقدياً شفوياً ينطوي على وجوب نباهة المحكِّم، وفعلاً كان النابغة كذلك، ولا يمر عليه خطأٌ كهذا، ناهيك عن أن الرواة يؤكدون أن القصيدة التي تضمنت بيت الإقواء كان النابغة قد قرأها في حضرة الملك النعمان وبحضور المنخل اليشكري، وهو شاعر فحل ولا يمكن أن يمر عليه ويسكت على خطأ وقع فيه غريم له أمام مَن يتنافسان على الحظوة لديه

لا يقلل من أهمية الحكاية، ما إذا كانت مصنوعة. فحكاية يثرب لها عبرة أخرى أهم من خطأ وتصويبه؛ أنها تفصح عن مدى هيبة الشاعر واحترامه بحيث نُسجت هذه الحكايةٌ التي فحواها التردد في نقد الشاعر، الحكاية اعتمدت حيلة المغنية، وقد استعيدت حيلة المغنية بعد النابغة الشاعر ولكن مع خليفة.

فبعد قرنين، تستعاد حيلة الغناء لتمرير هدفٍ يُخشى البوح به لخليفة، حيث يُعهَد لمغنٍ (أو مغنية) غناء بيتَي عمر ابن أبي ربيعة في مجلس هارون الرشيد

              ليتَ هنداً أنجزتنا ما تعد

                     وشفت أنفسَــــــنا مما تجــــد

                       واستبدَّت مـــــرةً واحــــــــــــــدةً

                          إنما العاجزُ من لا يستبد

ليتوقف الرشيد عند العجز الأخير (إنما العاجزُ مَن لا يستبد)، ويظل يردده، فكان بطشه بالبرامكة

***

ولكن (حكاية) أخرى جمعت حسان بن ثابت مع النابغة والخنساء هي واحدة من أبرع (حكايات) النقد الأدبي القديم، كما يحفظها لنا التاريخ

تقول الحكاية إن الخنساء قرأت واحدة من أفضل قصائدها أمام النابغة محكّم الشعر والشعراء، وكان حسان قد قرأ قبلها هو وآخرون قصائدهم. تعاطف النابغة، الشيخ الحكيم، مع السيدة الشاعرة فكاد يفضّلها على من قرأوا، فاغتاظ حسان الذي  نهر النابغة بالقول: أنا أشعر منك ومن أبيك، كما تقول الحكاية

يستجير النابغة بحكمته؛ فيسأل حسان عن أفضل بيت له (بعض الروايات تقول إن الخنساء هي من سألت حسان، فيرد حسان:

        لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعن في الضحى

                                    وأسيافُنا يقطرنَ مِن نجدةٍ دما

يضحك النابغة (في روايات معتمدة) أو الخنساء (في روايات أخرى غير موثوقة)، فيردّ أو ترد على حسان بأن هذا البيت وحده يتضمن سبعة مواطن ضعف، وحين يستفسر حسان عن تلك المَواطن يأتيه الرد

 ( “الجفنات” دون العشر، و لو قلت:” الجفان” لكان أكثر. وقلت:” الغر” والغرة بياض في الجبهة، ولو قلت “البيض ” لكان البياض أكثر اتساعا. وقلت:” يلمعن”، واللمعان انعكاس شيء من شيء، ولو قلت:” يشرقن” لكان فضل. وقلت:” بالضحى”، ولو قلت:” الدجى” لكان المعنى أوضح وأفصح. وقلت:” أسياف” وهي دون العشرة، ولو قلت:” سيوف” لكان أكثر. وقلت:” يقطرن” ولو كانت ” يسلن” لكان أفضل).

تنتهي صياغة الحكاية بصمت حسان وبعجزه عن الرد

تنطوي الحكاية على موقف نقدي سيكون ظاهرَهُ التعييرُ بعدم دقة استخدام اللغة في بعض المواضع (الجفنات، أسياف) فيما باطنُه، وهو الأهم، التأكيد على قيمةِ الاعتناء بالمعنى الشعري الذي سيتغيّر بتغيّر الكلمات في البيت. والمعنى الشعري بهذا الحال يتقدم على وقع الكلمات، المعنى الشعري هنا هو أجدر بالعناية من الانشغال بوقع كلمات. الاعتراض على استخدام (الضحى) بدل (الدجى) يؤكد هذا الموقف النقدي التفاضلي حين يقدِّم، في معرض تبريره، المعنى على الفصاحة (لكان المعنى أوضح وأفصح)، وواقعاً لا مشكلة مع الفصاحة هنا، فالنقد يتجه إلى شعرية المعنى وليس إلى مدى فصاحة الكلمة. إنه موقف نقدي حيوي ويقظ ليس في تنبّهه حسب وإنما أيضاً في تأشير اهتمام الناقد/ة بجماليات التعبير عن المعنى الشعري وتقديمه على ما سواه من عناصر بناء البيت الشعري.

لكن هذه الحكاية، وبخلاف حكاية النابغة السابقة مع أهل يثرب، تنطوي على فطنة نقدية مرتجلة وشفاهية نادرة وغريبة.. في الحكاية السابقة لم ينتبه النابغة ولم يُنبَّه إلى خطأ الإقواء، وهو خطأ صارخ، حتى بعد مرور زمن على قصيدته، واحتاج أهل يثرب إلى حيلة المغنية ليمرروا استهجانهم لخطأ الشاعر صاخب منزلة محكِّم الشعراء في زمنه، فيما هو بهذه الحكاية (وحسب الروايات الأساسية المعتمدة) يرصد بمجرد سماعٍ أول لبيتٍ واحد لحسان بن ثابت سبعةَ مواطن ضعف في البيت ويقترح البدائل لها.

في هذه الحكاية سيكون صمت حسان وعجزه عن الرد غير مبرر؛ لم تنتبه الحكاية إلى أن بعض الاعتراضات، وهي اعتراضات لغوية تعبيرية، كانت تفتقر إلى السلامة والفصاحة، فيما زمن الحكاية ــ وهو ما قبل الإسلام ــ هو زمن فصاحة.

فبعد أكثر من ثلاث مئة سنة يناقش ناقد عربي بغدادي هو قدامة بن جعفر الاعتراضات نفسها فيشير إلى أن كلمة (الغر) لا تحيل إلى البياض، وإنما المراد بها الشهرة (كما في قولنا يوم أغر)

اعتراض النابغة أو الخنساء، بموجب الحكاية، على هذا الاستخدام هو الاعتراض الأضعف (بين مواطن الضعف السبعة)، وبرغم أن من الممكن القبول به كاعتراض بلاغي، فهو لا صلة له بفصاحة الاستخدام، إلا أنه اعتراض ما كان الرد عليه صعباً على أي سامع له وليس على الشاعر نفسه تحديداً

يواصل قدامة ردَّه على بقية الاعتراضات وهي بمجملها اعتراضات وثيقة الصلة بالبلاغة وبمعاني الشعر وبالرؤية الشعرية للشاعر؛ يقول قدامة بن جعفر:” وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، أنه لو قال: بالدجى، لكان أحسن من قوله: بالضحى، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه”. ويستشهد للتمثيل على ذلك بالكواكب التي تضيء ليلاً وتختفي في النهار. ما يبرق في الضحى، حسب تعبير قدامة، هو الأشد بريقاً مما يمكن أن يبرق في الظلام. وهذا تأويل، بالإضافة إلى انحيازه المهم إلى حرية التعبير الشعري حتى وإن خالف الحق وبما يوسع أفق المجاز والخيال في الشعر، فإنه تأويل يحتاج إلى تدبر كان متاحاً للناقد البغدادي، كان يتأمل ويفكر ويكتب، بخلاف ما كان عليه النابغة أو الخنساء وأمامهما حسان

الطريف في رد قدامة أنه هو أيضاً، في معرض تفنيده، كان متعصباً وحتى متعسفاً، كما هو حال اعتراضات النابغة أو الخنساء، وحتى متناقضاً في رده؛ ففي الرد على الاعتراض على كلمة (يقطرن) بدلاً من يجرين يذهب الناقد إلى أن حسان  لم يكن يريد” الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دماً، ولم يسمع: سيفه يجري دماً، ولعله لو قال: يجرين دماً، لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجرِ عادة العرب به”. وهذا ما يتعارض على رده السابق الذي انحاز بموجبه إلى بلاغة الشاعر ومخالفة الشائع من الاستخدام (البريق في الظلام

هذه الحكاية، كما سابقتها، لا يمكن الركون إلى صدقيتها؛ ربما كانت هناك فعلاً مشادة وجدل بين النابغة وحسان أو الخنساء وحسان لكنها مشادة ليس من المعقول أن ترقى إلى حد اكتشاف (سبعة مواطن ضعف) في بيت واحد من مجرد سماعٍ أول وبمجادلة نقدية مرتجلة وشفاهية. الحكايات تتطور على السنة الرواة، هذه من مشكلات التاريخ الشفوي، وهذا ما هو شائع في معظم الروايات الشفاهية. في الحكاية رأي ينمّ عن تدبّر وعن تمتّع هذا الرأي بفسحة من الوقت للتشخيص واجتراح البدائل، وهو ليس وليد موقف مرتجل في لحظة خصام. الخصام يتطور ويصير حكاية على ألسنة الرواة الشفويين وبعد ذلك في كتب المدونين. المؤلفون وقبلهم الرواة يحتاجون إلى الحكايات التي يتطلبها منهم قراؤهم ومستمعوهم، دائماً الحكاية أفضل، للمستمع والقارئ

ولكن هذه الحكاية مهمة من حيث هي تعبير عن نمو وعي نقدي شعري، سواء اتفقت أو اختلفت مع مؤداه وقيمته وصحة مناسبته التي صيغت على هيئة حكاية جاذبة. هذا وعي وعمل ظل محدوداً لدى مثقفي العرب الأقدمين من رواة ومدونين، وهو وعي غير منظم وغير مؤسس وسابق لمرحلة تأليف كتب النقد الشعري الكبرى في الأدب القديم؛ لقد حصل هذا التطوير على خلاف حسان مع النابغة أو مع الخنساء أو مع كليهما بعد فترة ليست بالقصيرة على الفترة التي كانت تجري فيها أحداث الحكاية، إنما قبل ظهور تلك الكتب النقدية ورسوخ تخصصات النقد والتأريخ في الشعر والأدب، بحيث تسلمها قدامة بن جعفر كحكاية مفروغ من صحتها، ولم يشكك بها، وتعامل معها على هذا الأساس. لم ينشغل قدامة بمدى صحة الحكاية، لم يتعامل معها كمؤرخ (وما كان مؤرخاً) قدر ما ركز على التعامل مع رأي نقدي صادفه في رواية وانشغل بالاعتراض عليه

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply