جمالية الشّعر المعاصر

فالح الكيلاني

الفنّ جوهرة جمالية من نوع معين فهو لا يدرك بالحسّ فقط ولا بالعقلية فقط إنّما بالحدس فهو خبرة جمالية لا يمكن فهم حقيقته بمعزل عن إدراك طبيعة الخبرة الجمالية ذاتها وفهمها، وعليه فهو حدس وحسّ وعقل متفكّر وخبرة جمالية متّحدة بإدراك ومنها صيغ الجمال بطبعه.
وبما أنّ الشعر جزء لا يتجزأ من الفن ورافد مهم من روافده فقد ألهم الشاعر هذا الجمال من خلال نظرته الحساسة في سبر أغوار نفسيته وما تنطوي عليه الحياة وما يترشح منها نبعاً وفيضاً على الطبيعة وحدساً راقياً وإلهاماً جميلاً . فالشعر جزء من أصل الجمال، وعندما ينتج الشاعر الجمال في شعره يكون قد اكتسب حالة فنية وإنسانية مبتعدة عن كل مشاكل العالم و تحقق له توازناً كبيراً بين سعة الحياة بما فيها من مفردات وتجارب وقدرات وما درته الطبيعة من جمال في ذاتها .
فالشعر هو الكلمة الجميلة التي تنمو ضمن مفاصل الحياة ومن خلالها لتسجل أعمق بواطنها وأعلى شواّفيها وتتردم حالاتها بين المتناقضات كلّها وتجمعها في بوتقة حلم جميل تسعد فيه النفس وتسمو إليه الروح حتى في حالة شقائها، فهو إذاً يترجم عن حالة نفسية واقعة وكلّما كان مساسها شديداً كان أجمل .
لذا يبقى البحث عن إيجاد جمالية الشعر من الأمور الصعبة لأن مكمن الجمال في الشعر ليس جزءاً محدداً في ماهيّته بل في كلّيّته لأنّ كلّاً من الجمال والكينونة الشعرية ربما أمثلهما بمرآة قد تعكس مسار الآخر ويتبادل به وجود الآخر في سرية تامة وكينونة فريدة. فإذا قمنا بتحليل قصيدة شعرية – أية قصيدة – وجدنا الصور الشعرية والحدث الواقع في ظل الصياغة والوزن والقافية والأخيلة الواسعة والصور الشعرية الخلابة وبقدر وجود هذه الأمور في القصيدة يتمثل أو يظهر جلياً وقد نجد عنصر الجمال مخفياً غير ظاهر. فالحقيقة الأبدية والخالدة هي أنّ من طبيعة الجوهر أن يختفي، والاختفاء بحدّ ذاته هو جوهر الجمال أي أن جوهر الجمال يكمن في سرّه الخفي وكلما كان خفياً كان جميلاً. وأشبّهه بفتاة جميلة محصنة في بيتها أو خدرها لم ترها الشمس فتحرقها وظهرت فجأة فأبهرت الرائي وزادت في تشوقه بحيث تمنى أن يبقى أكثر لينعم بجمالها. وقد عرف الشعر في ذاته أنّه تلك القدرة العظيمة ولهذ ا فإن بعض الشعراء ممن يتمكن من قلب أحوال زمانه وله المقدرة في التأثير الكبير من خلال قصيدة واحدة أو بيت شعري واحد للوصول لهذا التاثير القوي من خلال الإبداع والصياغة الحدسية.
وعليه فإنّ ما يقف وراء هذا الشاعر دائماً في رحلة الإبداع هو إمكانية التاثير وشدته وتعدّ المتعة الجمالية وسيلة الشعر في الوصول إلى الغاية المرجوة فجمال القصيدة في غاية الشعر وطموحه إلى غاية الجمال هو أحد مسبّبات تكوين هذا الجمال في الوجود ولهذا فإنّ هذه المسببات قد تعدّ من وسائل غرس الجمال الكبرى في الصورة الشعرية للقصيدة .
وقد أوجد المجتمع البشري الوسيلة الشعرية نزوعاً لدوافع الحاجة الملحة في سبيل التلذذ النفسي فقد ولدّها أمران مهمان يعودان بالأساس إلى طبيعة النفس الإنسانية وهما المحاكاة والتذوق، فإن المحاكاة أمر فطري موجود لدى الناس منذ الصغر والتذوق أو الالتذاذ بالأشياء أمر عام للجميع وهدف اسمى تصبو إليه الأرواح .
إنّ الحالة الجمالية التي أوجدها المجتمع الإنساني والتي تعدّ بحد ذاتها متعة جمالية تهدف لإيجاد أمور كثيرة تعدّ أدوات فنية عالية الجودة ومتجددة بأساليب جمالية أشبه بتجليات نفسية في جوهر الفكر والرسالة التي تعد بإيجادها أو الوصول إليها . لذا فإن الجوهر الموجود في جسد أو بنية الفن عامة و الشعر خاصة والذي يعدّ جزءاً من الفن له قدرة استثنائية على التلاؤم مع الجمال والاندماج به وهذا الجوهر يعمل بطريقة سحرية عجيبة يشد المتلقي شداً بطريقة طردية بحيث تكون وظيفته تقديم المتعة النفسية للشاعر والمتلقي في الوقت ذاته وهذه المتعة عند الآخرين هي المنفعة الإنسانية .وعليه فإنّ الشعر يمكّنه من امتلاك ما يراه حقيقة أو وهماً في التعبير الأدبي والنفسي ويزاوج بينهما في خفاء واضح ويكون الكشف عن الجمال عبر هذا التبادل والتزاوج بحيث يشفّ عنه او يكشف عن كل منهما بمحاولة اخفاء الآخر، وهذا هو سر المتعة في الشعر. فإذا كان الشعر ترنيمة غنائية صادقة قد تولدت من الشعور المبدع فإن هذه القصيدة ناشئة عمّا في نفسية الشاعر وتعبر عمّا في خوالجه. فهي تمثل صورة من صور الاستقرار النفسي الذي يحسه أو يشعره بجماليته.
إن المسيرة الشعرية في مواجهة الحياة قد لا تصل إلى لحظة انتصار بل هي على الأغلب لحظة انحسار قد تعيش بالانبعاث و ربما يدرك الشاعر بحساسية مرهفة أنه يواجه حياة لا تكشف عن وجهها مرة واحدة، فوظيفة الشعر تتمركز في الانتصار الأفضل وهي مرحلة دائمة في سبيل الوصول للغرض المنشود لذلك فهي تمثل حالة الغليان الداخلي في أعماق الشاعر دائماً ونفسيته حتى لو ظهرت عليه ملامح السكينة وعلى بعض قصائده مسحة الشعر المنبعث من أعماق نفس شاعر ما وقلبه.
فالشعر يثبت قدراته الأدائية في استكشاف حالة الإنسان ويربط إيحاءاته بها ربطاً شمولياً، بحيث يتمكن- في الأغلب – من عزل نفسه عن المكان والزمان المقال فيه وربما يكون شمولياً فيبقى خالداً وهذا سر من أسرار جماليته وخلودها، فقد يرى مسرة الإنسان وفرحته وانسياقه نحو التفاؤل سراً دائماً في النفس البشرية وقد يرى في عذاب إنسان أو تعاسته في موقع معين عذاباً للإنسانية كلها. لذا فإن حالة الموت مثلاً لدى الشاعر تغدو موتاً وحالة إنسانية ليست شخصية ومعاناة ومعضلة تكتنف الحياة في كل مكان لا حياة شخص بعينه.
ومثل هذا التوجه الشمولي هو الذي يمس أعمق أعماق النفس البشرية منطلقاً
من الخاص إلى العام، من دائرة فقدان ضيقة بموت واحد من ملايين البشر إلى المصير الذي ينتظر هذه الملايين البشرية كلها. ولهذا فالشعر من أهم أركان الفنون الهادفة في خلاص البشرية واستكشاف حالها ومآلها و سبل ارتقائها إلى مواقع جديدة خارج دائرة الألم والعذاب بما يمتلكه هذا الفن العظيم من رؤية وقوى حدسية تنبؤه بنتيجة المعاناة التي تبعث فيه قوة التشبث بالحياة والأمل من داخل المعاناة النفسية وليس فوقها أو خارجها.

إنّ معظم مفكّري الجمال يميلون إلى القول بأنّ عمل الفنان هو وحده الذي يسمح بفهم الإنسان الحقيقي فنفس الشاعر المتلهفة على حب المصير الإنساني بإحساساتها الإنسانية تمكّنه حتماً من ترجمتها إلى جمالية طاغية مثقلة حانية على الناس والأشياء والعالم .
وعليه أستطيع أن أقول إنّ الشاعر يستكشف في الطبيعة ما لا تراه عين الإنسان العادي وهو في رؤيته هذه يفجر الضوء لينير ظلمة الحقيقة في النفس وينزع عنها أقنعتها القاتمة ويزرع فيها السناء والأمل، وهذا الشاعر قد يضع نفسه في مواجهة نفوس إنسانية مختلفة تكون بعضها متعبة وبعضها معذَّبة والأخرى متألقة نحو السمو والارتقاء .
لذا فالشاعر ليس مجرد إنسان يحيا لذاته ويعمل من أجل إشباع رغباته وحدسه الشعري . بل هو إنسان ذو رسالة معينة ويشعر أنه ينطق باسم قوة عليا قاهرة قد تعلو على شخصيته وتنفعل معها وتلهمه أفضل ما عنده من إبداع ولعل هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من الشعراء يشعرون بأن لهم حياة أخرى تتعدى وجودهم الزماني والمكاني و الذاتي وهذه الحالة قد تصدق بقوة أن الجمال الذي لا يقف عند حد نزع الكره والبغضاء واستئصال كل ما يشوه جمال وجه البشرية الجميل و إنه لينهض بالنفوس ويدفعها نحو حياتها واستقرارها.
والجمال الشعري يقدم أو يثبت صلات لكل ما هو موجود من أمور ربما تراها نفس الشاعر وعينه دون سواه فيكون شعره صوت الحياة الصافية وسرها، بحيث تكون له القدرة على التقاط أو بعث اهتزازاته الكامنة في أعماقه وهذه الاهتزازات إنّما هي رعشة لخفقات قلبية أو نفسية تصل إلى مسامع صاغية ونفوس متلهفة و أفئدة متشوقة لتصل الى جوهر الحياة فيكون الشاعر قد اشترى فيها حريته الأبدية وما تسموإاليه نفسه الأبية من قيم عليا طالما ظل يمنّي نفسه بالوصول إليها فيفرّغ شحناته الشعرية المنبثقة من نزعات نفسه فيها في جمالية شعرية خلّاقة. لاحظ هذه الأبيات الجميلة للشاعرة سميرة الزغدودي من تونس إذ تقول:

يَا واحَةً في رُبَاهَا يُورِقُ الغَزَلُ
وَيَا رَبِيعَاً بِهِ الأزهارُ تَحتَفِلُ

نَجمانِ والتَقَيَا في لَيلِ مِكحَلَةٍ
أهْدَابُنَا غَابَةٌ بالنُّورِ تَكْتَحِلُ

على شِفَاهِكَ بُنُّ الشِّعرِ مُعْتَكِفٌ
وفي خُدُودِكَ رَوضُ الوَردِ يَبْتَهِلُ

زُمُرُّدَاً صَاغَهُ الرَّحمنُ من أَلَقٍ
أَنوارُهُ العِشقُ والنُّوّارُ والخَجَلُ

يَفُوحُ مِنكَ عَبيرٌ أنتَ عَنبَرُهُ
في ظِلٍّ عَينيكَ طَابَ العُمْرُ والأجلُ

نُجُومُ وَجهِكَ آياتٌ تُوجّهُنِي
أيا سَمَاءً بِها الأقْمَارُ تَغتَسِلُ

أسْري إليكَ وفي عَينيَّ بَارِقةٌ
بِالشّوقِ والدّمعِ والأحلامِ أرتَحِلُ

مَددتُ كَفّي إلى لُقياكَ يَسبٍقُنِي
قلبي وَيرقُصُ في شِريانِهِ الأمَلُ

أتيتُ كُحْلاً وَعِطراً جَامِحَاً وَهَوىً
وفي عُروقِي شُموسُ العُمْرِ تَشتَعِلُ

أتيتُ أعبُرُ في عَينيكَ ألفَ مَدَى
في رَاحتيكَ جِنانُ العِشقٍ تَكتَمِلُ

يومَ التَّلَاقِي تَدُورُ الأرضُ وَاقِفَةً
مَدَارُهَا الهَمْسُ والأحْضَانُ والمُقَلُ

من هذا كلّه تتضح حقيقة واحدة هي أن الشعر في جوهره خبرة إنسانية من نوع معين وموهبة كامنة في النفس بل هي خبرة جمالية عالية الحدس وقد تفهم هذه الحقيقة العظيمة من خلال فهم أسس طبيعة الجمال ومساراته وطموح نفس الشاعر للوصول إليه والالتصاق به بحيث تبقى نفسيته متعانقة معه في نتاجه الشعري وتكون جزءاً من معاناته وما يعتمل في نفسه فينهمر شعره خالصاً جميلاً سائغا للشاربين.

Arabian Beauty, vintage artwork by Egron Sillif Lundgren

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply