مقامات الحريري والواسطي

إميلي بورتر

كتب الحريري مقاماته على غرار مقامات بديع الزمان بناءً على طلب من الوزير شرف الدين بن نصر وزير الخليفة المسترشد حينها. وعدد هذه المقامات خمسون مقامة تتمحور حول شخصية السروجي أحد طلاب الحريري، واسمه المطهر ابن سلام، وهو لغوي من البصرة، أما شخصية الحارث فتمثل الحريري ذاته.
هنا سأركّز على البعد التشكيلي بأسلوبه ومزاياه كما تخيله الواسطي والذي كان يصور الحياة كما في نص الحريري للمقامات الذي امتاز بكثير من الدقة والمصداقية المختصرة والشحيحة نصّاً وبروح مرحة تخلو من الوعظ المباشر الجاف، إلا أنّ الوصف لم يكن تفصيلياً، بل جاء موجزاً ومقتضباً فعجزت الكلمة عن سبر غور البعد الأكبر لنص الحكايات ولم يستحوذ الظرف والمكان ولا الإنسان على الاهتمام المفروض في نص المقامات المكتوب. أما الواسطي فقد صور الحكايات أو المقامات بكرم متناهٍ بصيغته التشكيلية مستخدماً التفاصيل التي هي أقرب إلى الواقع وبدقائقها التي شكلت اللوحة، وكذلك التقنيات التي كان يحذقها كافة وبمهارة فائقة بتفاصيل من مخياله والتي كان من المفروض أن تكون في تلك القصص المكتوبة و بخاصّة رابطة الزمان بالمكان على نحو أوضح مضيفاً عليها ما يبيّن النص تفصيلياً بالكثير من اللوحات، لذا بدت أعمق من الكلمات المقتضبة في النص.
ابتدع الواسطي أسلوباً خاصاً به لكنّ هذا لا يعني عدم تأثره بالتجارب السابقة، بل إن تطويره لتلك التجارب جاء واضحاً ومتميزاً، كما أنه اهتم بالتعبير، وعلى الرغم من أن الكثيرين من مؤرّخي الفن يقولون بمحدودية تصوير الواسطي للوجه الإنساني واستخداماته التعبيرية فإنني أخالفهم الرأي.
إن الشخصيات التي رسمها الواسطي، وأغلبها من الذكور، تبدو لنا منشغلةً بأمور الحياة اليومية بكل ما فيها من مظاهر وتسجيل للحظات الآنية، وقد أعطى أهميةً كبيرةً للشخصيات التي تنصت وتستمع أو تراقب شيئًا ما إذ ترتسم على وجوهها تعابير واضحة. ويقال إنّ الواسطي رسم الوجوه إما بشكلها الجانبي أو أبرز ثلاثة أرباعها، لكن ثمّة وجوهاً مرسومة من الأمام والتعابير واضحة عليها. و على الرغم من تكرار شخصية الرجل، كما جاءت في المقامات كلها بلسان الرجل وصوته، فإن الواسطي لم يغفل المرأة في لوحاته بل صوّرها وركّز على وجهها المعبّر وجسمها باستداراته الطبيعية ولم يحاول مواراتها أو تجنّبها، بل أوضحها وجعلها بؤرة النظر.
لم تكن المناظر الطبيعة الموضوع الإنشائي بل جاءت ضمن سياق المادة إذ أن المواضيع عامةً كانت تصور الحياة اليومية بأبعادها كلّها ، فلوحات الواسطي، فضلًا عن قيمتها الفنية الجمالية، تحمل بعداً تسجيلياً وثائقياً. صوّر الواسطي الطبيعة فكان في أحيان كثيرة ينقل عنها حرفياً وأحياناً أخرى يحورها ويختزلها أو يجردها، وفي الأغلب كان يترك لخياله العنان في تصوير أي منظر طبيعي لكن من وجهة نظره هو كونها تعزيزاً وتكريساً للإنشاء التصويري.
يقول هيغل إن تغريد البلبل أجمل ألف مرة من صوت إنسان يقلد البلبل، لكن اللحن الموسيقي الذي يُستوحى من تغريد البلبل هو العمل الفني الحقيقي، وهذا يعني أن الفن المستوحى مثلاً من الطبيعة والواقع أرفع شأناً لأنه نابع عن خلجات الفنان، وبذلك يكون العمل الفني انعكاساً لفكره وروحه.
لا تقلد رسوم الواسطي الطبيعة بل تستعير منها الكثير من مفرداتها فهو يوظفها على نحو مقنع وكأنها جزء من المشهد، ولم يهتم بالمقاييس الحقيقية للمفردات بل كبّرها وصغّرها لتناسب الموضوع والإطار العام للوحة.
صوّر الواسطي الحياة اليومية من دون مجاملة أو تحيز إذ أن لوحاته تعكس مجالس الأنس والطرب والخمر ومجالس القضاة وقوافل الحج، صوّر الأشكال الآدمية، ولم نجده متردداً في أن يشير إلى المحرمات الدينية بل تطرق لها بجرأة فائقة. كان يقرأ الواقع كما هو لا كما يتمناه ولم يكن أحادي التفكير أو قصير النفس بل سار بمنهجية التحدي والمواجهة وعرض الواقع بموضوعية بما يوسم اليوم بـ”المدرسة الواقعية”.

وحاول الواسطي تصوير البعد الثالث بإيهام المشاهد وذلك بتغيير الألوان من الفاتح إلى الداكن واختلاف الأحجام من الكبير إلى الصغير، كما أن باستعماله اللون كان يحاول تتبع الحدث ويكسر الملل والرتابة ويعبّر عن روحية متفردة للواقعة، وألوانه تصوّر ما يتخيل وليس ما يرى فقط، وإذا ما استعمل الألوان البراقة فقد كان يختارها بكثير من الدقة للمحافظة على توازن الأشكال على عكس ما نرى في المنمنمات الآسيوية التي تطغى عليها الألوان الصاخبة والحركات العشوائية للأشكال الحية والجامدة التي غالباً ما تعوم في فضاء اللوحة وتفقد حجمها الطبيعي، فإما هي مبالغ فيها أو على العكس.
شخوص الواسطي ثابتة مستقرة متوازنة تستند على الأرض بثقة وصلابة، ويؤكد من خلالها أن تلك الشخوص تستند على أرض معينة محددة معروفة وذلك برسم خط الأرض وما يمثل ذلك الخط من مفردات بيئوية من تشكيل جذاب مدروس للشوك أو رسم شجرة برتقال أو جمل يحرك قائمته أو حصان مدّ رأسه إلى الأمام يتطلع قدماً إلى الرحيل مشاركاً الحجيج رغبتهم العارمة في الذهاب إلى بيت الله، كما في صورة قافلة الحج (صورة الحج) أو صورة الجِمال. وينبغي أن نلاحظ هنا أن رسوم الواسطي لا تُصنّف ضمن فنون المنمنات بل إنها لوحات.
أعطى الواسطي أهميةً لشخوصه المجسَّدة أكثر من الخلفيات وجاءت أحجامها غير متناسبة مع البنايات أو الحيوانات والأشجار في الخلفية، فالإنسان أكبر وأضخم وأهم وهو المحور الأساس. ولم يهتم الواسطي بالنسب وهذا يدل على أنه لا يتساهل في الحرية في تنفيذ الجسم البشري بقوة وحزم وإصرار، وهو يعطيه الأهمية القصوى، إذ أن تصوير الفكرة المتمحورة على الشخصية الآدمية أهم بكثير من الخلفية المعمارية حجمًا فقط، وفي عرض الإنسان بهذا الحجم تحدٍّ ومجابهة على الرغم من أن المحرمات لم تكن قد وجدت طريقها الى الفنون، لذا كانت الحرية الحقيقة واضحةً لدى الواسطي.
وعلى الرغم من تنفيذه الخلفيات -طبيعيةً كانت أو معماريةً- بحجم أصغر، فقد أعطاها التفاصيل التي تستوجبها من تبيان الحجوم والهيكل البنائي وطراز البناء وعناصره المميزة وخامات البناء المستخدمة، مع انتباه للنسب الجمالية في التصميم. وقد تحذلق في إظهار عدد الطوابق ومواضع الشرفات وشكل البوائك القائمة على أعمدة وحاول أن يبين من خلالها حتى تفاصيل تاج العمود الناقوسي كما في المقامة الواسطية.
الواسطي يعرض لنا بثقة ووضوح التناسق بين الحركة للمفردة ومحيطها وفضاءاتها إذ يدور معظمها حول حس تشكيلي متمركز ومتموضع قد حدد له المكان والزمان والرمز وقاد تلك المعطيات كلّها مخيال خصب ممّا أدى إلى هاجس سردي تشكيلي استطاع الفنان أن يبينه في صياغته لهذا التداخل بين الفكرة والتنفيذ، إذ تمركز من خلاله المكان والزمان والرمز في أسلوب الجمع بين ما هو واقعي يدور على الارض وألوانه وخطوطه ومساحاته وشخوصه وبانسياب اللون مع الحركة أو بدونها سواء أكانت آدمية أو لا فإنّ ذلك يساهم في حصول التماهي في المشهد المؤطر أمام المتلقي ويعرض له ما استخلصه الفنان من الحدث أو الحكايا شيئاً معنوياً بصيغة خطوط وألوان تحكي بفيض عن واقع ما جرى في المقامة.
للواسطي إلمام تام بكيفية التعامل مع الخط واللون والمساحات والكتل بكرم متناه وسخاء في توزيع الكتل الجميلة وفي تنفيذ المفردات كلها من آدمية أو نباتية أو عمارة بدون بهرجة لونية أو إقحام، واذ كان النص المرسوم يحتوي الكثير من التفاصيل التي شحّت في النص الكتابي فكلها يشكلها بحذق واسترخاء وقوة ومجابهة وتفهم للكتلة وموازنتها. والكرم هنا مع التوازن بين المفردات قاطبة يعطي قوة بصرية هائلة.
فضلًا عمّا تقدم فإنّ للواسطي أفكاراً ريادية وأسلوباً متفرداً وظف فيه ما يميزه عن غيره من المصورين في النقاط الآتية:
أدخل الفراغ بشكل متناسب مع قوام اللوحة.
ألغى الإطار التقليدي.
أكّد خط الأرض.
جعل شخوص المواضيع من حيوان أو إنسان أو نبات ترتكز على الأرض بثقة.
نفّذ الكتابات بشكل مختلف ومتحرر وبعيد عما كان متعارفاً عليه كمادة تزويقية ممّا قدّمها على أنّها من صلب الموضوعSubject Matter.
تناولت المقامات المواضيع الحياتية اليومية بما فيها من صدق وحساسية ومن غير مجاملة أو تحيز أو مساومة على حساب النص أو العمل التشكيلي، ولم نجد أية عوائق أمام الواسطي في تشخيص المرأة أو الرجل، فقد رسم المرأة كما رسم الرجل بوعي وحرية وبكل ما يمكن من تفاصيل.
هنا نرصد رسمه للمرأة التي ترعى الجِمال، فنجد تكورات جسمها تبدو واضحةً: ورك وعجز كبير ويد رشيقة وأصابع ناعمة وخدود ملونة (وزلف) أسود يظهر بوضوح وعيون مكحلة، كما أن الأكمام واسعة عريضة لا أعتقد بأنها تخفي الكثير، ولا شك لدي في أن المرأة ترتدي ثوباً تحت الفستان بالأكمام الواسعة، وكلما رسم المرأة حرص الواسطي على إبراز تكورات جسمها بوضوح. وقد نلمس الجمال الذي كرسه بقامة المرأة التي تبدو كبيرة الحجم نسبياً مقارنة بالجِمال، وهي تؤكد الأهمية التي يعطيها للإنسان، أما صورة الجِمال المصطفّة المتكررة فقد توخى فيها أن لا يقع في مطب التكرارimg_2734 ويتجنب الرتابة إذ نجد ستة ظهور وستة أعناق ورؤوس، وقد رامَ من عملية تكرار السيقان شد انتباه المشاهد إلى أهمية الحركة، ورسم رأسين لجملين يأكلان العشب كل واحد منهما بلون مختلف، ورسم قسماً من الجمال بفم مفتوح علامة الرغبة في الأكل أو المضغ، كما أنّ التعدد اللوني للجِمال بدا واضحاً لكسر الملل ولإضفاء الواقعية على العمل والتنوع في الحركة التي يقوم بها الإنسان أو الجمال أو حتى انحناءات النباتات. ذلك كلّه أدخله لكسر الملل وتجنب التكرار الذي نشاهده في المنمنمات الشرقية الفارسية والرسوم البيزنطية.
أما صلابة الأرض وهيئة الراعية وثبات أرجل الجِمال على الأرض فتوحي بالثقة والاطمئنان والمنظر يوحي لنا بالصدق، وهو في الواقع أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولا يستطيع أحد أن يؤكد بأنه شاهد جمالاً مصطفّةً بهذا الشكل المرتّب المنسّق، فكلنا قد مرت بنا الجِمال ونعرف أنها تسير بتباعد، بعضها خلف بعض لا جنب بعض، وحتى وهي ترعى فإنّها ترعى متفرقةً. فهنا عرف الواسطي كيف يخدع المشاهد ويقنعه بأنّ العمل الفني يقدم له الحقيقة، كما يقول بيكاسو.

 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

1 Comment

Leave a Reply to SarahCancel reply