الأسرة العربيّة وتحدّيات الاغتراب*

علي حرب

* قُدّمت في الندوة التي نظّمها صالون هتاف الشعر الثقافي بالتعاون مع الاتحاد العالمي للمثقفين العرب عبر تقنية زوم، بتاريخ يوم الأحد 26/09/2021.

عندما عرضتْ عليّ رفيقة الدرب في مشروعنا الثقافي الشاعرة هتاف توجهها لتنظيم ندوة حول الأسرة العربية والتحدّيات التي تواجهها في بلاد الاغتراب تلقّفت الفكرةَ بشغف كبير نظراً لما يمثّله هذا الموضوع من أهمية أساسية في الحركة الثقافية التي أسعى إلى إعمامها وترسيخها ونظراً للدور الخطير الذي يلعبه كيان الأسرة في استقرار الحاضر والمستقبل وانطلاقاً من إيماني بأنّ الثقافة الأسرية الحقّة لا تتوقّف عند الإرث المعرفي الطبيعي التقليدي بل هي عملية بناء متواصل على هذا الأصل في شتى مجالات المعرفة، كما أنها فعلُ رصدٍ للواقع وتحليله واستشراف المستقبل من خلاله.

أن تصنعَ أسرةً يعني أن تبدأ بتثبيت قواعد الهرم المجتمعي الإنساني، أي أن تصنع مجتمعاً قادراً على صناعة وطن، ليس فقط بمواد المفاهيم التقليدية وأدواتها بل بما يجب أن ننجزه من تحديث وإضافة استجابة لمقتضيات العصر وحاجاته.

ما نرمي إليه في ندوتنا هذه وضع الإصبعِ على مكامن العِلل ومحاولة الوقوف على أسبابها وسبل علاجها بهدف تأسيس أسرة سليمةِ التكوين واعيةٍ لمسؤولياتها الجسيمة متكافلةٍ متضامنةٍ متحابةٍ ومتعاونة، مستقرّةٍ وقادرةٍ على صناعة جيل سليم متوازن نفساً وعقلاً وجسداً، حرٍّ متمكّنٍ من مهاراته في مواجهة التجارب ومؤهلٍ للتعامل مع المتغيّرات بانفتاح وكفاءة.

لن أخوض في شرح التحدّيات التي تتعرّض لها الأسرة العربية في الاغتراب وسأكتفي بتناول هذا الموضوع ضمن سياق المنهاج الثقافي الذي أشتغل عليه.

إنّ التحدّيات والصعوبات التي تواجه الأسرة العربية في بلاد الاغتراب أجدها لا تقلّ تأثيراً عن التحدّيات والمواجهات والأخطار التي تتعرّض لها الأسرة في بلادنا العربية. صحيح جداً أنً الأسرة العربية عرضةٌ لمواجهة تحديات كبيرة أعدّها من جانبي من أصعب وأخطر التحدّيات الأخرى التي تنتظر المهاجرين العرب في بلاد الاغتراب الغربي بخاصة لأنها تمسُّ جوهر المفاهيم والأسس التي يقوم عليها البناء الأسري في بلادنا وتتمظهر باختلافات حادة في العَلاقات بين الجنسين وفي الزواج وفي تربية الأطفال وتعليمهم وحقوقِ كل طرف وموقعِه وخصوصياتِه ودورِه، إلى ما هنالك من التفاصيل الحياتية اليومية الدقيقة التي تحكم هذا الكيان تحت سقف واحد. أضف إلى ذلك مجموعةَ القوانين والتنظيمات التي ترعى هذه المؤسسةَ الاجتماعية وما يستتبعها من تشريعات تُبيح العَلاقات الجنسية والمساكنة والزواج المثلي والإجهاض وشرعنة المخدرات وغيرها. والسؤال هنا:
هل هذه الاختلافات هي وحدها موضوع التحدّيات للأسرة العربية المهاجرة؟ وهل الأسرة العربية القادمة إلى مجتمع جديد محصّنة وعياً وثقافةً وتأهيلاً لخوض غِمار هذه التحدّيات؟ هل يمكن لأسرتنا العربيةِ بما تحمله معها -زوجاً وزوجةً وأطفالاً- من أعباءَ إرثيةٍ في هذا الجانب ومن خطوط حمراءَ في العلاقات الأسرية ومن هشاشة في مناعتها الثقافية الأسرية الصحيحة ومن اختلالات لافتة في منظومة الوعي الأسري- أن تدخلَ هذه المغامرة وتخرجَ منها سالمة أم ستكون هذه التجرِبة وَبالاً إضافياً وعاملاً مساعداً على الفشل والتفكك على المستويين: الأول للأسرة المهاجرة مسبقةِ التكوين والثاني للأسرة المقبلة لبناتنا وأبنائنا في المهاجر؟
إن ما نعيشه ونعاني منه اليوم من مآس وتردٍّ وتخلّف في معظم بلادنا العربية ليس إلا نتيجةً حتميةً لتقاعسنا المتمادي عبر عصور عن ترسيخ ثقافة أسرية عادلة وحكيمة تنسجم مع التطورات التي يشهدها زماننا وتفتح ثغرة أملٍ في إنتاج جيل قادر على رسم وقيادة المستقبل نحو الأفضل. تراودني بعض الأسئلة في هذا الإطار سأطرحها على سبيل الأمثلة التطبيقية.
هل تساءلنا عن حقيقة استفحال ظاهرة الطلاق والتفكك الأسري في مجتمعاتنا التي تثير الهلع في نسبها المرتفعة؟
هل لفت انتباهَنا تجذّرُ النهج الذكوري في ذهنياتنا وعَلاقاتنا الأسرية؟
هل هزّت مشاعرَنا جرائمُ الشرف أو زواجُ القاصرات والقاصرين أو ظاهرةُ تعدّد الزوجات أو الزواج التعسفي أوالزواج غير المتكافئ أو زواج المصالح؟
هل تحققنا يوماً عن حقيقة انتشار المخدّرات بين أبنائنا؟
هل وقفنا لحظةَ تأمّل أمام ظاهرة العاملات الأجنبيات في المنازل اللائي لا يكاد منزل في بلادنا يخلو من إحداهن واللواتي عهدنا إليهنّ تربيةَ أطفالنا وتنشئتَهم؟
أين ثقافة تقاسم الحياة عند قرار الارتباط الأسري وترسيخ مفهوم معنى ومسؤوليات الأبوة والأمومة المؤهلتين عند قرار الإنجاب؟
أين برامج التوعية الثقافية الأسرية أثناء الجائحة التي ألمّت بنا والبرامج الإرشادية الأسرية والاجتماعية أمام جموح وسائل التواصل الاجتماعي؟
تعجّ الساحات العربية بالمؤسسات والشبكات والمنظمات الراعية لشؤون الأسرة والتوعية الاجتماعية وعلى رأسها منظمة الأسرة العربية المنبثقة عن جامعة الدول العربية، فهل لمسنا نتائج خططها وبرامجها على الواقع الأسري والاجتماعي والوطني؟ هل تقلّ هذه التساؤلات أهمية وأثراً عن التحدّيات المتوقعة في بلاد الاغتراب؟ أرى هنا، وبمنطق الموضوعية التي يجب أن ترافق أحكامنا، ألّا ننسى يوماً أن ثمّة الكثيرَ الكثيرَ من المزايا والإيجابيات التي هيّأها الاغتراب، في كندا بخاصة، لأسرنا وأطفالنا، والمتمثلةِ في الرعايات الصحية والنفسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية منذ لحظة قدوم المهاجر إلى وطنه الجديد وامتداداً على مدى المراحل والظروف الأسرية الأخرى من غير أن أعفيها أيضاً من مسؤولياتها في مهمة الوعي الأسري.
إذا أراد أحدنا الحصول على رخصة لقيادة سيارة يقدّمون له دليلاً شاملاً لدراسته تمهيداً للخضوع لامتحان شفوي ثم يلزمونه بالانتساب إلى إحدى مدارس تعليم القيادة على مدى أشهر.هذا في موضوع قيادة السيارة، فما بالنا بمسألة قيادة جيل يتكفّل بصناعة مستقبل مجتمع ووطن؟ تفتّح وعي المسؤولين فباتوا يطلبون شهادة طبية للطرفين عند عقد الزواج وهذا إجراء صحيح ومهم، ولكن أليس مطلوباً من المؤسسات الدينية والمدنية تزويد المتقدمين للارتباط بدليل واضح وشامل لشروط هذا الارتباط ومسؤولياته ومن ثم إخضاعهم لامتحان أهلية لأسمى وأخطر مؤسسة إنسانية في المجتمع؟
عندما أنادي بأنّ الثقافة هي حصن السلام فإنّما هذا ما أعنيه وما أرمي إليه، وعندما أطرح شعار “بالثقافة نبني” فإنّما أهدف إلى تدعيم أسس بنائنا بالثقافة والوعي لنجنّبه الانهيار والانزلاق ولنتابع البناء فوق البناء. التحدّيات في الاغتراب شاملةٌ وقاسيةٌ ومتشعبةٌ لكننا بقدْر ما نكون محصّنين بلَقاح الثقافة والوعي والتنوير نكون قادرين على المواجهة بأقل قدْرٍ ممكن من الخسائر والتشققات.
وأختم بإطلاق مناشدة إلى المثقفين المختصين في علوم التربية والاجتماع والنفس والصحة للمبادرة إلى وضع مجموعة من الكتيّبات والنشرات كأدلّة للوعي الأسري قابلة للتحديث باللغات الثلاث العربية والفرنسية والانجليزية وإعمامها والإضاءة حولها عبر المنتديات ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بهدف إطلاق حملة مكثّفة وواسعة لإرشاد الآباء والأمهات والبنات والبنين والتخفيف ما أمكن من الأخطار المحدقة بكياناتنا الأسرية.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply