Colonial Bilingualism: Tunisia as An Example ~ في الثنائية اللغوية المفروضة إستعمارياً: الحالة التونسية مثالاً

Kamel Ghozzi

Abstract:

This article addresses the non-dialectical nature of “colonial bilingualism” presented by colonists as an important aspect of the “oeuvre civilisatrice” they force on their colonies. The author starts with Edward Said’s view on the “travel of ideas” through various cultural terrains, in a dialectical process of mutual influence that leads to cultural enrichment and enlargement of horizons, to show that unlike any other form of bilingualism, the colonial one is a unilinear process, guided by a desire for self-affirmation and belligerency.

In colonial contexts, colonists are guided by two obsessive urges that make them insist on imposing their languages on their colonies. The first is their desire to produce a trained workforce that carries a high level of “colonizability” that keeps the “Rapport Colonial” immune from reproach. The second is their desire to use their tongue as a “social control” mechanism through which they can establish and affirm their “noble character” and the “uncivilized character” of the colonized.

The author uses the example of the colonial imposition of the French language on Tunisians fromthe end of the third quarter of the nineteenth century until Tunisia’s independence in the mid-twentieth century. That process has, until recently, resulted in the use of French as the dominant language in Tunisia’s administrative institutions and the relegation of Arabic to a marginal status..

في الثنائية اللغوية المفروضة إستعمارياً: الحالة التونسية مثالاً

كمال الغُزّي

“أعترف بأنه أمر إيجابي أن تلتقي الحضارات بعضها ببعض وأن تمتزج عوالم مختلفة. كما أقدر أنه مهما بلغ مستوى التميز الإبداعي لأية حضارة فانها سوف تنحسر إذا ما هي انكفأت على ذاتها. التبادل الثقافي هو الأوكسيجين للحضارات … غير أنني  أطرح السؤال التالي: هل حقق الإستعمار تلاقي الحضارات؟ … أقول بأنه يوجد بون شاسع بين الإستعمار والحضارة. فمن كل الحملات الإستعمارية التي بعثت ومن كل القوانين الإستعمارية التي سنت ومن كل المذكرات الإستعمارية التي أرسلت ومن كل الوزارات الإستعمارية التي أرسيت لم تظهر قيمة إنسانية واحدة.”

Aime’ Cesaire “Discours Sur Le Colonialisme”

“هكذا فقدتُ والدتي ولغتَها في آن واحد — الكنزين الوحيدين غير القابلين للإنتزاع ومع ذلك انتزعا.”

Kateb Yacine “Le Polygone Etoile’ “

مقدمة:

من الملفت للإنتباه في طبيعة المنطق الإستعماري أنه يقوم على زرع الثنائيات المتضادة حيثما حل، و أن  ثنائياته تصر على رفض منطق التكامل، ولا تعترف إلا بمنطق الإلحاق. 

فهو يسقط نسخا مشوهة لمؤسساته السياسية التي أفرزتها تضاريس تاريخه على الحياة السياسية لمستعمراته  فيشوش تقليدها السياسي، ويزرع فيها سياسات هجينة ومتذيلة لإرادته. 

وهو يسقط سلعه على أسواق المستعمرات فيدمر حرفييها ويفلس تجارها. 

وهو يسقط أعراقه البشرية على شعوب المستعمرات فيزرع  فيها بذور الطائفية المؤذنة بالإحتراب. 

وهويسقط أشكاله العمرانية على مدن المستعمرات فيهمش معالمها الضاربة في التاريخ ويفرغها من وظائفها الحية. 

وهو يسقط أنماط إنتاجه على أنماط إنتاج المستعمرات، فيضرب توازناتها القديمة  بين مدنها وأريافها، فيفقرالأرياف و يدفع بسكانها إلى هجرات يائسة نحو المدن تمزق نسيجها الحضري الضارب بقدمه في التاريخ. 

وهوينشئ في المستعمرات نخبا يريدها امتدادا مشوها لنخبه، فيهمش مثقفي المستعمرات، و يحكم عليهم أما بالتحول إلى الهجانة التابعة، أو بالتلاشي التدريجي إلى خارج الفعل التاريخي، إذ لا نجاحات حقيقية لهم في المؤسسات الأصلية لمجتمعاتهم و قد أفرغتها الإدارة الإستعمارية من نسغها الحيوي، إما بتجفيف منابع قوتها أو بإغلاقها لتتحول قيمها ومعاييرها وآدابها وفنونها تدريجيا إلى فلكلور محنط.

وهو يسقط أنظمته المدرسية على مدارس المستعمرات، فيقدم مشاريعه “تحضيراً لسكانها الأصليين” ويقدم  تاريخه مثالا وحيدا للتقدم “إذ لا تاريخ خارج أوروبا.” فيدفع بجزء منهم إلى احتقار ذواتهم والسعي إلى التماهي مع تاريخه، وبالجزء الآخر إلى الإنكفاء في سياسة “دفاع تعويضي” يرون من خلاله كل وارد من بلاد الغرب شراً مطلقا. 

هكذا يحتد التضاد في المجتمعات المستعمَرة بين “القديم” و”الجديد” وبين “الأصيل” و”الوافد” وبين “المدن” و “الأرياف” فتفقد هذه المجتمعات كل توازناتها القديمة وتنشطر هوياتها وتشل حركة نخبها، فتفقد القدرة على العيش بتكافلية المجتمع القديم، وتعجزعن القبض بعقلانية المجتمعات المعاصرة. في ذلك النوس تفقد التوازن و ينفصم وعيها عن حاجتها، في حين ينتزع الإستعمارمنها مزيدا من الإعتراف بشرعيته كمشروع “مخلص و محضر.”

 في طبيعة الثنائيات اللغوية المفروضة إستعمارياً:

 تعدّ اللغات سواء في أشكالها الشفوية أو المكتوبة خزانات لحفظ ذاكرة الجماعات وثقافاتها، كما تعكس ألفاظها المباشرة ومدلولاتها المتضمنة طرق تفكير تلك الشعوب وخصائص تمثلاتها لنفسها وللعالم. لذلك، فبما أن الثقافة واللغة الحاملة لها مجالان متشابكان لا يقبلان الإنفصال، فإن مسارات تعلم الأفراد والمجموعات للغات غير لغاتهم تصبح مسارات ثقافية في جوهرها، إذ أن الإنسان الذي يملك لغة ما— كما يقول فرانتز فانون— “يملك تبعاً لذلك العالم الذي تعبر عنه تلك اللغة أو تعكسه.”1 Fanon, F. 1967. Black Skin, White Masks Grove Press p.18   

إلا أن سَفراللغات كأنساق ثقافية بين الأقطار والحضارات، وما تنقله تلك اللغات في سَفرها من خصائص ثقافية وتاريخية، و ما يترتب عن ذلك السفرمن نتائج و استتباعات، يختلف في السياقات العادية عنه في السياقات الإستعمارية. شتان بين تثاقف لغوي جدلي ينشد فتح آفاق جديدة في العلاقات بين الثقافات والحضارات والأمزجة المختلفة للشعوب وبين إسقاط فوقي عنيف  تحدوه إرادة فرض الذات وتذكيه أهداف إثبات القوة وإذلال الآخر. 

يرى إدوارد سعيد أن حركة الأنساق الثقافية في سَفرها من مكان إلى آخر قد تتخذ أشكالا متنوعة تتراوح بين التأثير المباشر والخفي وبين الإستعارة الجزئية والتبني الكامل، لكنها تؤدي في الغالب إلى إثراء الحياة الثقافية والفكرية للشعوب. فمهما يكن الشكل الذي تنتهجه حركة النسق الثقافي في سَفره بين الأقطار والحضارات فإنه يتفاعل ضرورة مع مجموعة من العوامل الثقافية والمؤسسية والمزاجية التي تختلف عن تلك التي تعوّد التفاعل معها في سياقاته الأصلية، مما يجعل حركته تلك  خاضعة بالضرورة لمنطق التأثر والتأثير. 

وبحسب إدوارد سعيد، تتفاعل الأنساق الثقافية المسافرة في حركة تنقلها بين الحضارات المختلفة مع أربع محطات أساسية: إبتداءاً تتفاعل مع عوامل سياقها الأصلي التي ولدت فيه والذي حصلت فيه درجة من التميز. ثانياً تتفاعل هذه الأنساق سلباً وإيجاباً مع العوامل التي تعترضها في تضاريس المسافة التي تقطعها عبر السياقات المختلفة وهي في مجال سيرها نحو اكتساب مزيد من القبول والإعتراف. ثالثاً تعترض هذه الأنساق في سفرها هذا “عواملُ قبولٍ” تزيدها تمكناً و”عواملُ ممانعةٍ” تعيق ظهورها، مما يجعل مصيرها مرهونا الى حد كبير بموازين القوى بين تلك العوامل. رابعاً تكون نتيجة المسارات السابقة تغيرَمحتويات هذه الأنساق وأشكالها ووظائفها نتيجةً لتفاعلها الجدلي مع كل تلك المحطات.2Said , Ed. 1983 “Travelling Theory” in: The World, The Text, and The Critic Harvard University Press    

الأنساق الثقافية اللغوية المفروضة إستعماريا تتبع منطقاً مغايراً لا يخضع للمنطق الجدلي الذي يصفه إدوارد سعيد. في السياقات الإستعمارية، هناك هاجسان أساسيان يدفعان المستعمرلإسقاط  أنساقه الثقافية على شعوب المستعمرات إسقاطاً عنيفا: 

أولاً:  هوسه بتنمية إقتصادياته و تغذية أسواقه. هذا الهدف النفعي يجعله يدرك سريعاً أن نجاح مشروعه الإستعماري يقتضي خلق وتدريب يد عاملة من أبناء المستعمرات تتيح له تسييرمؤسساته الجديدة التي أنشأها في مستعمراته. هذه المؤسسات يجب أن تُدار بلغته حتى تؤدي دورها أيضاً في تنمية القابلية الكافية لضمان استمرارية وجوده بين أبناء المستعمرات. فمن كان منهم أكثرحذَقا للغةِ المستعمر كان أعلى إنتاجية وأشد ولاءاً له في نفس الوقت. يصف  فرانتز فانون  Frantz Fanon  هذا الوضع في حالة أبناء مستعمرات الجزر الغربية حيث  يصبح زنجي الجزر الغربية “أكثر بياضا نسبيا— بمعنى أنه يصبح أقرب إلى الإنسان الحقيقي— بقدرحذقه للّغة الفرنسية.”3 Fanon, F. 1967. Black Skin, White Masks. Grove Press p.18  

ثانياً: يرمي المستعمر من خلال  إصراره على “الإنفتاح اللغوي” غير المتكافئ على أبناء مستعمراته إلى إثبات “رفعته” و إقناعهم  “بدونيتهم” في سلّم المكانة الإنسانية. يذهب أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci إلى أن الإنفتاح النسبي على “عوالم العوام”—وهو الإنفتاح الذي تنخرط فيه أحياناً الثقافات الأرستقراطية التي تعرّف نفسها بمنطق العلو النخبوي (كتدريس لغاتها وآدابها وفنونها في مدارس وجامعات العوام، أو كفتح متاحفها لعموم الطبقات الوسطى والعمالية) رغم اقتناعها الكامل “بدونية” هذه العوالم ورغم وصمها إياها “بالوضاعة”— غالباً ما يهدف إلى إضفاء مزيد من التثمين على تلك الثقافات الأرستقراطية في منظور العوام، وغالباً ما يؤدي إلى المزيد من اقتناع “العوام” بدونية ذواتهم قياسا إليها.4 Gramsci A. 1971 Selections From The Prison Notebooks London, Lawrence and Wishart  

ويذهب بيير بورديو Pierre Bourdieu إلى أن انفتاح الثقافات الأرستقراطية النسبي على بقية شرائح المجتمع التي تراها دونها مكانةً إجتماعيةً غالبا ما يتحول إلى “أداة للمراقبة الإجتماعية” تفرض على المجتمع برمته قبول علاقة غير متكافئة في بنية الذوق الإجتماعي بين “رفيع” و”وضيع” على أنها تراتبية طبيعية ينبغي على “الوضيع” قبولها دون اعتراض.5Bourdieu, P. 1992 Distinction: A Social Critique of The Judgment of Taste. London, Routledge  

وتذكر فاني كولونا  Fanny Colonna ، السوسيولوجية الفرنسية التي ولدت و نشأت بالجزائر، أن هدف الإدارة الفرنسية من  تعميمها القسري للغة الفرنسية كلغة تعليم وحيدة  بالجزائر كان لخلق ظروف ملائمة لتقبل الناشئة الجزائرية لنظام العلاقات الإستعمارية بتلقائية ودون مساءلة.”6Colonna, F. 1972 Les Instituteurs Algeriens Formes a’ L’Ecole Normale de Bouzareah (1883-1939)  

 هكذا تتنزل الثنائيات اللغوية المفروضة إستعماريا في صلب هذا المنطق الربحي الإستعلائي، وهكذا ترمي إلى بلوغ تلك الأهداف المهينة لابن المستعمرات. إنها آلية أخرى من آليات المستعمر لخلق السلطة التي لا تكون أبداً أحادية الجانب، والتي لا تنشأ إلا داخل الفضاءات العلائقية.  أما ابن المستعمرات في ذاته كإنسان،  فإنه لا يعني الكثير للمستعمر الذي لا حاجة له في فهم أنساقه الثقافية، سواء كانت لغةً أم آداباً أم فنونا. إذ أنه يعتبرها محنَطات خارج حركة التاريخ، ولا تاريخ في المستعمرات. 

ويذهب “ألبير ممي” Albert Memmi إلى أن “الثنائية اللغوية” تتحول في السياقات الإستعمارية إلى مسألة حياتية بالنسبة لمثقفي المستعمرات. ذلك أن  حذق هؤلاء للغة مستعمريهم غالبا ما يكون الطريق الجيدة للرقي بظروف حياتهم المادية في وضع إستعماري تكون فيه لغة المستعمرهي اللغة المعتمدة في الإدارة وفي جلّ مؤسسات الدولة. إنها اللغة التي تخرجهم من الفقر و توصلهم إلى تحصيل قدر من الإعتبار الإجتماعي.  لذلك، فإن عدم حذقها من شأنه أن يسبب لهم  قدرا هاما من التهميش في مجتمعاتهم. 

إلا أن “ممي” ينبه إلى أن مثقفي المستعمرات الذين يتمكنون من حذق لغة مستعمريهم، حتى وإن تمكنوا نسبياً من النجاة من التهميش الذي ينال بقية مواطنيهم، فإنهم غالبا ما يسقطون في “كارثة ثقافية يستحيل عليهم التعافي منها كلياً … ذلك أن الثنائية اللغوية المفروضة إستعماريا هي نوع من التضاد اللغوي الذي لا يشبه أي تضاد لغوي آخر. ففي هذا السياق، لا يكون امتلاك لغتين كإمتلاك أداتين، بل هو انخراط فعلي في فضاءات نفسية وثقافية. ذلك أن العالمين اللذين ترمز اليهما كل من اللغتين هما في هذه الحالة عالمان متصارعان.” 7 Memmi, A. 1965. The Colonizer and The Colonized. Orion Press p.107 

اللغة الأجنبية الجديدة التي يقدمها المستعمر لأطفال مستعمراته في مدارسهم الجديدة ترمي بهم داخل أحداث و أسماء لا تذكّرهم البتة بأحداث و أسماء عوالمهم اليومية التي يعيشون فيها. إنما هي تقدم لهم “عالماً فيه الطفل الصغير يدعى “توتو” و البنت الصغيرة تدعى “ماري”… و في إحدى الأمسيات يرجع توتو و ماري إلى المنزل عبر مسالك يغطيها الثلج، فيقفان على بائع القسطل المشوي…” 8Memmi, A. 1965. The Colonizer and The Colonized. Orion Press, p.105 

هكذا وكما يرى “البير ممي” يُستدرَج طفل المستعمرات تدريجيا إلى استبطان قناعة مفادها أنه وتاريخه إما “غبار بلا معنى” أو أنهما لا يكتسبان معنى إلا عن طريق إلحاقهما بعوالم أخرى غريبة عنهما كالمسيحية الأوروبية وهما ليسا بمسيحيين أو بالغرب البعيد عن عالمهما.9Memmi, A. 1965. The Colonizer and The Colonized. Orion Press, p.105      

تاريخ الثنائية اللغوية المفروضة إستعمارياً في تونس

تعود بدايات انتشار الثنائية اللغوية في تونس إلى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، وسط وضع سياسي كان يخيم عليه شبح الإستعمارالفرنسي الذي طال الجارة الجزائر وهو يوشك أن يحل بالإيالة التونسية. كان حكم البايات الحسينيين خاضعا لضغط القناصل الأوروبيين الذين كانوا يعتمدون سياسة الترهيب والترغيب في جر حكومة الباي محمد الصادق إلى مواصلة جملة إصلاحات على النمط الأوروبي تخص النظام الإداري والقضائي و التربوي بدأها سلفهم  أحمد باي فيما عرف “بتحرير الرق”، ثم محمد باي بإعلانه “لعهد الأمان”. 

في سنة 1840 بعثت “راهبات القديس جوزيف” Les Soeurs du Saint Joseph  وهن خمس راهبات فرنسيات جئن من الجزائر، أول مدرسة تبشيرية ابتدائية لهن بمدينة تونس، تعتمد اللسان الفرنسي في تدريس كل موادها. نفس الراهبات بعثن مدرسة ثانية من نفس النوع بمدينة سوسة سنة 1843 ثم مدرسة ثالثة بمدينة صفاقس سنة 1852 ورابعة بضاحية حلق الوادي سنة 1855 ثم  خامسة بجزيرة جربة سنة 1879.10 Arnoulet, F. 1954. “La Penetration Intellectuelle En Tunisie Avant le Protectorat” In Revue Africaine” Publication de La Societe’ Historique Algerienne. V.69. p. 146  

في سنة 1846 بعث الأسقف فراسوا بورغاد  Abbe’ Francois Bourgade  القادم أيضا من الكنيسة الفرنسية بالجزائر مدرسته الإبتدائية بتسجيل ثمانين طفلا تونسيا مناصفة بين مسلمين و يهود.11Arnoulet, F. “La Penetration Intellectuelle En Tunisie Avant le Protectorat” In Revue Africaine” Publication de La Societe’ Historique Algerienne. V.69. p. 173  

في سنة 1855 بعثت المجموعة التبشيرية  الرجالية “إخوان المذهب المسيحي” Les Freres de La Doctrine Chretienne بتونس  أول مدرسة لهم في تونس، و ذلك بواسطة مجموعة من القساوسة الأنغليكان القادمين من إنجلترا و”الذين كانوا يجتهدون في انتداب الأطفال المسلمين  و يمارسون عليهم ضغطا بهدف تحويلهم إلى الديانة الأنغليكانية.” 

في سنة 1878 بعثت منظمة التحالف  الاسرائيلي L’Alliance Israelite  بتونس أول مدرسة أولى لا دينية لليهود التونسيين تعتمد اللسان الفرنسي، وعززتها بثانية في سنة 1880. 

رغم أن الجزء الأوسع من القاعدة التلمذية  لهذه المدارس كان ينتدب من  أبناء الجاليات التونسية غير المسلمة (فرنسيين، إيطاليين، مالطيين، يهود …) و رغم أن الأقلية  التلمذية المسلمة  كانت تنحدر في أغلبها من العائلات المرفهة القريبة من الحاشية الحاكمة، فإن التأثيرالإجتماعي لهذه المؤسسات التعليمية الخاصة كان مهماً حيث أنها شكلت لأول مرة في تاريخ التعليم بتونس نظاما مدرسيا موازيا لنظام الكتاتيب والمدارس القرآنية التي كان الإشراف على إدارتها حكرا على خريجي جامعة الزيتونة الإسلامية.  

يذكر آرنوليه  Arnoulet أن باي تونس كان مرحباً بانتصاب هذه المدارس التبشيرية المعتمدة للسان الفرنسي  بالإيالة التونسية وأنه كان يقدم لها مساعدات مالية تشجيعا لها و يستدعي المشرفين عليها إلى القصر الملكي كلما نظم حفلات على شرف القناصل الأوروبيين. بل و أنه كان أيضاً يطلب من أساتذتها  تعليم اللسان الفرنسي لأبناء حاشيته في القصر الملكي.12Arnoulet, F. “La Penetration Intellectuelle En Tunisie Avant le Protectorat” In Revue Africaine” Publications de La Societe’ Historique Algerienne. V.69. p. 173  

يبدو أن التعليم الفرنسي حقق قدراً عالياً من النجاح في استقطاب التونسيين، كما يظهر أن نجاح المدارس الفرنسية  قد تدعّم أكثر بانتصاب نظام الحماية الفرنسي رسميا بالإيالة التونسية. فمثلاً في سنة 1890 وبعد مضي تسع سنوات فقط على انتصاب نظام الحماية، نجد أن تلك المدارس قد انتصبت في كل مدينة تونسية تقريباً كما ارتفعت أعداد تلامذتها  التونسيين الذين حازوا على شهادات في حذَق اللسان الفرنسي باطراد من 150 تلميذا فقط سنة  1883  إلى 17,650 تلميذا سنة 1889، لتبلغ 31,900  تلميذا سنة 1893، أي بأكثر من %200  خلال عشرية واحدة.13 Louis, A. 1953 “La Jeunesse Tunisienne et Les Etudes”. IBLA .Tome xvi, Publications de L’Institut des Belles Lettres Arabes.Tunis.  

  التعليم التونسي في مراحله الثانوية ظل أيضا حتى العقد السابع من القرن التاسع عشر يعتمد اللغة العربية كلياً حيث يحتكر شيوخ “الجامع الأعظم” الزيتونيون الإشراف الكامل على كل مؤسساته و برامجه. إلا أن هذا الإحتكار قد تلقى أول ضربة موجعة له سنة 1875 ببعث الباي محمد الصادق “للمدرسة الصادقية” بنظام مدرسي لا ديني على النمط الأوروبي يهدف  إلى “تدريس مبادئ العلوم العصرية واللغات الأوروبية” للناشئة التونسية. وبانتصاب الحماية الفرنسية رسميا بالبلاد التونسية  سنة 1881 أصبحت هيمنة اللسان الفرنسي على مناهج التعليم الصادقي أشد وضوحاً. إذ قررت إدارة المدرسة في نفس السنة خفض عدد ساعات تدريس اللغة العربية لتلاميذ المرحلة الأولى والثانية معاً إلى ساعة واحدة في اليوم، بينما قررت تدريس كل مواد التاريخ والجغرافيا والرياضيات والكيمياء والفيزياء والقانون باللسان الفرنسي وبإشراف أساتذة أغلبهم من الفرنسيين.14Sraieb, N. “Enseignement, Elites, et Systeme de Valeurs: Le College Sadiki de Tunis”. In: Teitler M. et al. 1973. Elites, Pouvoir et Legitimite’ Au Maghreb, Editions du Centre National de la Recherche Scientifique, Paris. P.107-139.    

 كان بعث المعهد الفرنسي College Saint Louis سنة 1880 بضاحية قرطاج على أيدي مهندسَي نظام الحماية الفرنسية القنصل الفرنسي Roustan   والكاردينال الفرنسي  Lavigerie خطوة أخرى متقدمة و ناجحة في سياسة تدعيم  تدريس اللسان الفرنسي بالإيالة التونسية. استهوى المعهد منذ سنة تأسيسه الأولى عائلات الأعيان وحاشية الأمراء الحسينيين بحاضرة تونس، حيث أعجبوا بسَمتِه النخبوي وبحداثية مناهجه التعليمية مما جعلهم يفضلونه على التعليم في الفروع الزيتونية ويحولون أبناءهم نحوه.

تدعّم التدريس باللسان الفرنسي بشكل أعمق وأكثر تنظيما بتعيين الإدارة الفرنسية للمسيو لويس ماشويل Louis Machuel سنة 1883 على رأس “إدارة التعليم العمومي”  La Direction de L’Instruction Publique  التي أنشأتها لتنفيذ سياسة فرنسة التعليم بالمحمية.  كان المسيو ماشويل القادم من الجزائر شديد الإعتقاد بقدرة اللغة الفرنسية على تجميع سكان الإيالة التونسية من عرب وفرنسيين ويهود وصهرهم في خدمة مستقبل أفضل لهم جميعاً. كما قدّر أن لا أفضل من المدرسة في تحقيق ذلك الهدف. لذلك أعلن منذ تعيينه أن الموارد المالية المخول إليه التصرف فيها لا تكفي لتمويل نظامين تعليميين متوازيين وسارع إلى إلحاق مدارس التعليم الزيتوني الخمسمائة، التي كانت تدرَّس كل موادها باللغة العربية، بنظر إدارته. 

 في سنة 1888 شكل ماشويل هيئة مكونة من عدد من الفقهاء إلى جانب عدد آخر من الأعيان من تونسيين وفرنسيين وعهد إليهم بإعداد مشروع لإصلاح التعليم بالجامعة الزيتونية نفسها كان من نتائجه إنهاء استقلالية التعليم الجامعي الزيتوني وإخضاعه جزئياً إلى نظرإدارة ماشويل الذي عيّن نائبين له في نظارة الجامعة يمثلانه كمدير لكل مؤسسات التعليم العمومي بالإيالة التونسية.

لكن المشروع الحاسم في سياسة ماشويل اللغوية تمثل في بعثه لما أصبح يعرف بين التونسيين آنذاك بمدارس “الفرانكو-آراب”   Les Ecoles Franco-Arabes وهي مدارس إبتدائية وثانوية تدرّس بها كل المواد تقريبا باللسان الفرنسي مع إيلاء هامش ضئيل للغة العربية التي لم يكن ماشويل يؤمن بقدرتها على استيعاب العلوم والآداب العصرية.

شهد مشروع “الفرانكو-آراب” نجاحا كبيرا بإشراف ماشويل، حيث أصبح يشكل عصب التعليم العمومي بالبلاد التونسية، وامتد جغرافيا فغطى معظم المدن والبلدات. بل و تمكن  في وقت وجيز من جذب عشرات الآلاف من التلاميذ التونسيين الى مؤسساته الإبتدائية والثانوية إلى درجة أن ماشويل كان يواجه مشكلة عدم توفر أعداد كافية من المدرسين لتغطية الإقبال المتنامي على هذا النوع الجديد من التعليم العصري، حيث أنه  كان يجلب النسبة الأكبرمن مدرسيه من بين الفرنسيين خريجي الجامعات الفرنسية. 

ولتغطية نقص الإطار التعليمي اللازم لتسيير مدارسه خصص ماشويل إمكانيات “المعهد العَلَوي” Le College Alaouite بتونس للقيام بمهمة واحدة وهي توفير الإطار التونسي الكفء لتدريس الناشئة التونسية كل المواد الدراسية باللسان الفرنسي. فكان يجلب إلى المعهد أجود الأساتذة من فرنسا ويرسل أنجب تلامذة المعهد لمواصلة دراستهم في الجامعات الفرنسية.15https://whisperingdialogue.com/wp-admin/plugin-install.php?s=header-footer+&tab=search&type=term  

وبحلول السنوات الأولى للخمسينيات أصبح نجاح مشروع التعليم الفرنسي في تونس تاماً وغير قابل للإرتداد، كما أصبح تهميش نظام التعليم الزيتوني العربي كاملا أيضا. فقد تمكنت “إدارة التعليم العمومي” منذ سنة 1944 من فرض إشراف كامل على نظام التعليم الديني التونسي وإنهاء ما تبقى من إستقلاليته. وبذلك فقد “تعليم الجامع الأعظم” واللسان العربي كل بريقه التاريخي و لم يعد وجهة مغرية للتونسيين، وأصبحت قاعدته التلمذية في سنة 1944 لا تتعدى ال 10,714 تلميذا يواصلون دراستهم بفروعه الإبتدائية والثانوية بحاضرة تونس ومختلف جهات البلاد.16 Louis, A. 1953 “La Jeunesse Tunisienne et Les Etudes”. IBLA .Tome xvi, Publications de L’Institut des Belles Lettres Arabes.Tunis.p.2 and p.32   في مقابل ذلك، وفي نفس السنة، نجد أن القاعدة التلمذية لما أصبح يعرف بالتعليم العصري، الذي يعتمد اللغة الفرنسية كلغة تدريس أساسية أو وحيدة، قد بلغت 154,662 تلميذاً ليصل هذا الرقم  سنة 1953 إلى 285,000 تلميذ بعد قرار الحكومة إجبارية التعليم في تونس.17 Paye, L. Education. In Contents, special issue 1953, p.52 

الهوامش ~ Footnootes:

Fanon, F. 1967. Black Skin, White Masks Grove Press p.18١

٢ Said , Ed. 1983 “Travelling Theory” in: The World, The Text, and The Critic Harvard University Press 

٣ Fanon, F. 1967. Black Skin, White Masks. Grove Press p.18

٤ Fanon, F. 1967. Black Skin, White Masks. Grove Press p.18

٥ Bourdieu, P. 1992 Distinction: A Social Critique of The Judgment of Taste. London, Routledge 

٦ Colonna, F. 1972 Les Instituteurs Algeriens Formes a’ L’Ecole Normale de Bouzareah (1883-1939) 

٧ Memmi, A. 1965. The Colonizer and The Colonized. Orion Press p.107

٨ Memmi, A. 1965. The Colonizer and The Colonized. Orion Press, p.105

٩ Memmi, A. 1965. The Colonizer and The Colonized. Orion Press, p.105

١٠ Arnoulet, F. 1954. “La Penetration Intellectuelle En Tunisie Avant le Protectorat” In Revue Africaine” Publication de La Societe’ Historique Algerienne. V.69. p. 146

١١ Arnoulet, F. “La Penetration Intellectuelle En Tunisie Avant le Protectorat” In Revue Africaine” Publication de La Societe’ Historique Algerienne. V.69. p. 173 

١٢ Arnoulet, F. “La Penetration Intellectuelle En Tunisie Avant le Protectorat” In Revue Africaine” Publications de La Societe’ Historique Algerienne. V.69. p. 173 

١٣ Louis, A. 1953 “La Jeunesse Tunisienne et Les Etudes”. IBLA .Tome xvi, Publications de L’Institut des Belles Lettres Arabes.Tunis. 

١٤ Sraieb, N. “Enseignement, Elites, et Systeme de Valeurs: Le College Sadiki de Tunis”. In: Teitler, M. et al. 1973. Elites, Pouvoir et Legitimite’ Au Maghreb, Editions du Centre National de la Recherche Scientifique, Paris. P.107-139. 

١٥ Macken, R. 1972 Louis Machuel And Educational Reforms In Tunisia During the Early Years of The French Protectorate. Revue D’Histoire Maghrebine n:3 1975, p. 45-55

١٦ Louis, A. 1953 “La Jeunesse Tunisienne et Les Etudes”. IBLA .Tome xvi, Publications de L’Institut des Belles Lettres Arabes.Tunis.p.2 and p.32

١٧ Paye, L. Education. In Contents, special issue 1953, p.52

Bibliography ~ المراجع

Arnoulet, Francois. 1954. “La Penetration Intellectuelle En Tunisie Avant Le Protectorat” Revue Africaine. Publication de La Societe’ Historique Algerienne, volume 69.

Bourdieu, Pierre. 1992. Distinction: A Social Critique of the Judgment of Taste. London: Routledge.

Colonna, Fanny. 1972. Les Instituteurs Algeriens Formes a’ L’Ecole Normale de Bouzareah (1883-1939).

Fanon, Frantz. 1967. Black Skin, White Masks. Grove Press, Inc.

Gramsci, Antonio. 1971. Selections from The Prison Notebooks. London: Lawrence and Wishart.

Louis, Andre’. 1953. “La Jeunesse Tunisienne et Les Etudes: Effectifs scolaires, orientations diverses.” IBLA. Tome xvi, Publications de L’Institut des Belles Lettres Arabes.Tunis. P.61-64.

Macken, Richard. 1972. Louis Machuel and Educational Reforms in Tunisia During the Early Years of The French Protectorate. Revue D’Histoire Maghrebine n:3, 1975.

Memmi, Albert. 1965. The Colonizer and The Colonized. Orion Press.

Paye, Lucien. 1953. Education. Contents.  Special issue.

Sraieb, Noureddine. 1973. “Enseignement, Elites, et Systeme de Valeurs: Le College Sadiki de Tunis.” In: Teitler, M. et al. Elites, Pouvoir et Legitimite’ Au Maghreb. Editions du Centre National de la Recherche Scientifique, Paris. P.107-139. 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply