ضوء خافت في المسلسل الألماني: دارك “DARK”

كوكب البدري


الكتابةُ في أدب الخيال العلمي مغامرةٌ أدبيّة بالغة الخطورة وشديدة التّعقيد يُمسِك فيها الكاتب بشخصياته بحبالٍ غير مرئيّة، بل ومتناهية الدّقّة والمرونة، ويُسَيّرها على أرضٍ أثيريّة وشديدة الرّخاوة ليس لها من الصّلابة إلا مقدار ما يرتكز عليه الكاتب من فهم واستيعاب للنّظريات العلمية الحديثة خصوصاً نظريات نشوء الكون وفرضيات علم الكونيات، فلا تُغفَر له زلّاته في فهم النّظريّة الفيزيائيّة التي بنى عليها عملَه الأدبي.

وبالرغم من أنّ المسلسل الألماني (دارك ) كان عملاً درامياً فأنا أعامله معاملة النّص الأدبي لأنّ كاتبَيْه (باران بو أودر ويانتيه فريزه) استطاعا أن يقولا إنّ الدّراما هي الأخرى لها بلاغة. وقد تجلّت بلاغة الدّراما الألمانيّة وعبقريتها في هذا المسلسل الذي جمع النّظريّة العلميّة والعقيدة الدّينيّة في فلسفة موحّدة ومعقّدة عن طريق تشابك شخصيات العوالم المتوازية وضياع تلك الشّخصيات في متاهات الثّقب الدّوديّ في نسيج الزّمان والمكان ، ذلك النّسيج الذي وفرّه الكاتب في كهفٍ يقع أسفل محطة توليد الطّاقة النّووية في قرية (فيندن) الألمانية. فنجدُ أنّ من كانت طفلة في عالمٍ ما هي أمٌّ لأمّها في عالم موازٍ لعالمها، ومن كانت له حبيبة في زمانٍ معين سيكتشف أنّها عمة له في زمانٍ آخر وهكذا في سلسلة متشابكة البداية والنّهاية تجتمع بها كلّ الأزمنة في عقدة محبوكة لم تجد حلّاً إلا في الحلقة الأخيرة، لكن بعد أن شهد العالم أكثر من نهاية مفجعة بفعل تحفيز قدر قليل من المادة المظلمة . وكأنّ الكاتبَ أراد القول : إنَّ كلَّ نظرية قد مرّت بمخاض عسير ومتشابك المفاهيم وتلاقت فرضياتها مع جزئيات وتقاطعت مع جزئيات أخرى حتى وصلت لصيغتها النّهائيّة التي تحتمل التّعديل والتّأويل والتّفسير، تماما مثلما تمكَّنت (كلاوديا) من تعقب الأحجيات التي جعلتها تقابل نفسها في مراحل عمرية مختلفة وتحاول ترتيب مسار الوجود الأوّل الذي سبب تلك الفوضى الزّمانيّة والمكانيّة عندما حاول العالم (تانهاوز) السّفر إلى الماضي لإنقاذ أسرته لكن تجربته تلك أدّت إلى انشطار عالمنا إلى عالمين متوازيين يتحكم (آدم) به بمسيرة (يوناس) وتتحكم (إيفا) بمسيرة (مارتا) حيث يحاول كل من (يوناس) و(مارتا) إصلاح الخلل في كل مرّة، وفي كل مرّة تولد الآلام من جديد وكأنّ بهذا الأمر إشارة لقصّة آدم وحوّاء( إيفا في المسلسل) والخطايا التي جرّتها خطيئتهما الأولى عندما أكلا من الشّجرة المحرّمة فخرجا من الجنّة التي ظلّت (إليزابيث) تحلم بها وتطلب من (نوح) أن يشرح لها شكلها ويحدِّثها عن الرّاحة الأبدية، فلم تكن أسماء الشّخصيات قد اختيرت بصورة عشوائية؛ وأظنُّ أنَّ اختيار اسم (كلاوديا) التي حلّت الأحجية لم يكن اختياراً عشوائيّاً وإنّما له ارتباط بالقدّيسة كلاوديا التي آمنت بالمسيح  واهتدت إلى آلامه  حين رأته في منامها. وهنا ربط الكاتب بين العقيدة الدّينية والنّظرية العلميّة وبذلك عاد بعلم الكونيّات إلى عباءته الدّينيّة وقد نبَّأتنا بهذا أسماء  الشّخصيّات الرّئيسة، فمثلاً، اسم البطل الرّئيس في المسلسل هو (يوناس) الذي -يذكِّرني باسم نبي الله يونس عليه السّلام- وقد وقع عليه الاختيار لانقاذ العالم من النّهايات المتكررة للبشريّة والآلام التي عانتها الشّخصيات كلُّها. وفي قصة سيّدنا يونس نجد أنَّ القرعة قد وقعت عليه لإنقاذ السّفينة من الغرق، ثم ما يلبث يوناس أن يحمل اسم (نوح) في عصر آخر باحثاً عن ابنته (شارلوت) وكان مدركاً لاقتراب نهاية  العالم التي حدثت عندما قامت مع ضابط التحقيق رونالد بفتح براميل المادة المظلمة في مصنع الطّاقة النّووية وهي قصّة مقاربة لما نجده في الدّيانات والحضارات جميعاً إذ تنبئنا قصّة الطّوفان عن تمكن نبي الله نوح من انقاذ ما يمكن انقاذه  من مظاهر الحياة للبدء من جديد، حتى يصل يوناس لمرحلة تحمل فيها شخصيته اسم (آدم) تزامناً مع الوقت الذي تحمل به (مارتا) اسم (إيفا) -التي يقابلها في اللغة العربيّة حوّاء- وفي ذلك إشارة من الكاتب لمحاولته فهم سر النشوء الأوّل للبشرية وللكون في لحظة الانفجار العظيم خصوصاً أنّ آدم كان قائداً لجماعة ( هكذا خُلِق العالم).

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply