فلندا والحِراك الثقافي العربي

فاروق أبو شقرا

ضمن ندوة الحراك الثقافي في المهجر بتنظيم من الدكتور علي حرب

نظرًا لقلة عدد المهاجرين المثقفين العرب إلى فنلندا والسويد فسأكتفي بإعطاء لمحة موجزة عن فنلندا التي أعيش فيها منذ نصف القرن ثم عن المستشرقين الفنلنديين ورحلاتهم إلى البلاد العربية ودورهم الإيجابي في التعريف بها.

نبذة عن فنلندا:

 يبلغ عدد سكان فنلندا نحو خمسة ملايين ونصف مليون نسمة، أي ما يقارب تعداد سكان وطني الأم لبنان، بمن فيهم غير اللبنانيين. فبالنسبة للكثيرين تعدُّ فنلندا بلدًا غير معروف إلى حدٍ ما. وسأوجز فيما يلي التعريف ببعض المزايا المتفوقة فيها فنلندا على صعيد محلي وعالمي وما قام به بعض المستشرقين الفنلنديين.

مزايا فنلندا متقاربة من جيرانها في الدول الاسكندنافية الثلاث والمسماة أيضاً دول الشمال: السويد والنرويج والدنمارك.

تاريخ فنلندا مرتبط بشكل كبير بتاريخ السويد ولهذا فإن اللغة السويدية لا تزال حتى يومنا هي لغة رسمية لفنلندا، إلى جانب الفنلندية.

التعليم

كسائر الدول الإسكندنافية تعتبر فنلندا التعليم حجر الزاوية في بناء مجتمع منضبط تسوده الديمقراطية والتقيد بحُكم القوانين (فلا لحكم الأفراد!).

يوجد في فنلندا ما يقرب من 3.000 مدرسة تضم نحواً من 550.000 تلميذ. تنفق الدولة نحو 12% من الميزانية العامة على التعليم في مختلف المجالات. فبنظرهم مهما كان نظام التعليم ناجحًا فإنه يحتاج إلى تطوير مستمر وهذا التطوير ينعكس إيجابًا على المجتمع بمختلف جوانبه الأَسَاسِيَّة.

ولهذا تحتل الدول الإسكندنافية غالبًا المرتبة الأولى لمؤشر الدولة الأفضل في العالم وفي مقدمتهم فنلندا، طبقًا لمؤشرات مقاييس أذكر منها: الثقافة والعلوم والتكنولوجيا، والأمن، والرفاه، والمساواة، والصحة والأعمال الخيرية، وجوائز نوبل المكتسبة، وتبرعات المساعدات الإنسانية، ومتطوعي حفظ السلام التابع للأمم المتحدة وحرية الصحافة، وبراءات الاختراع… إلخ

كما صُنِّفت فنلندا على مدى السنوات الخمس المنصرمة بأنها أسعد دولة والأكثر أمانًا على مستوى العالم حسب تقرير السعادة العالمية الذي أصدرته شبكة حلول التنمية التابعة أيضًا للأمم المتحدة. ومنذ ثلاثة أعوام صُنِّفت جامعة هلسنكي في المرتبة ال الثانية و الخمسين في مجالَي التعليم والأبحاث.

وقد تبرعت فنلندا للبنان بمبلغ 12,500 مليون يورو للمساهمة بمساعدة المتضررين نتيجة انفجار المرفأ، فجُزءٌ لا بأس به من هذا المبلغ كان من مؤسسات خيرية والجزء الأكبر من الحكومة الفنلندية.

 معدلات الجريمة في فنلندا منخفضة جدًا والفساد شبه معدوم. وأود أن أذكِّر المشاركين بأن فنلندا كانت إحدى الدول الرائدة في تصنيع الهاتف النقال ماركة بنوكيا المشهورة.

حصلت المرأة الفنلندية في عام 1906، كأول امرأة في أوروبا، على حق التصويت والترشح في الانتخابات النيابية.

أما بالنسبة للبنان فيؤسفني القول إنّي قرأت يوم الأحد الفائت تغريدة للأديب اللبناني هنري زغيب يقول فيها: “لم يكن مفاجئًا ما قرأْتُهُ أَمس السبت، على الصفحة الأَخيرة من “النهار”، أَنَّ لبنان حلَّ في مرتبة “أَتعس بلد في العالم، قبالةَ فنلندا التي، تَوَاليًا للسنة الخامسة، حلَّت في مرتبة “أَسعد بلد في العالم”. ويتخذ هذا التصنيف جدّيَّته ومصداقيَّته من أَنه يصدر سنويًّا عن دائرة الإِحصاءات والتصنيف في منظمة الأُمم المتحدة”.

لمحة عن الاستشراق والمستشرقين الفنلنديين

تعود العلاقات بن العرب وشعوب الدول الإسكندنافية، إلى القرن الثامن للميلاد. يؤكد هذا أحمد بن فضلان الرحالة العربي المعروف في رحلته الشهيرة سنة 922 م وتُعدُّ يومياته التي سماها (رسالة ابن فضلان) من أهم مراجع تاريخ الفايكنغ سكان البلدان الإسكندنافية. 

والمتاحف الفنلندية وسائر متاحف الدول الإسكندنافية تضم الكثير من الآثار وبخاصة القطع النقدية الذهبية والفضية والبرنزية وما شابهها والتي تعود إلى العهد العباسي وقد جُمِّعت هذه القطع النقدية عن طريق تنقل الفايكنغ عبر الإمبراطورية العربية وتِجارتهم مع سكانها في القرن الثامن للميلاد، ومخطوطة ابن فضلان ما زالت محفوظة في مكتبة “سانت باترس بورغ” في روسيا وقد شاهدتها بأم عيني مكتوبة بخط واضح تسهل قراءته.

في القرن السابع للميلاد ازداد اهتمام العرب بحب الرحلة والسفر لغرض المعرفة والاطلاع واكتساب الخبرة وبحثاً عن التجارة التي ما زالت جزءًا من العلاقات الحضارية بين الشعوب. وذُكرت في كتاباتهم أحوالُ الشعوب وتقاليدُهم وعقائدُهم ولباسُهم وطبيعةُ الأرض ونتاجُها ومناخُها والطرق التي سلكوها، أذكر منهم ابن خلدون وابن بطوطة والإدريسي الجغرافي، وهو أول من وضع دول البلطيق على خريطته بما فيها فنلندا، كما ذكرت سابقًا. وكان من أهم ما يسجله التجار هو عن الرقيق والمنسوجات والجلود والفراء والشموع والسيوف وغيرها. وكانت لبغداد في ذلك الحين سمعة رفيعة في الخارج.

في عام 921 للميلاد قرر الخليفة المقتدر في بغداد إرسال وفد استطلاعي إلى بلاد البلغار، وتقرر أن يتكون الوفد من أربعة أشخاص أساسيِّين من بينهم رئيس البعثة ابن فضلان و بضعة مرافقين ومترجمين لهم خبرة في الأسفار ومساعدين. وكان من بين هؤلاء واحد يُظن أنه يجيد لغة التجار (الروس) الذين يَفدون إلى نهر الفولكغا وكان ممن اِستُجلِبوا إلى بغداد كرقيق.

انطلق الوفد يوم الخميس في 12 حزيران/ يونيو عام 921 حاملًا معه الضروريات الأولية والأدوية، فوصل إلى همذان فطهران ثم عبر جيحون إلى بخارى حتى وصل إلى نهر الفولغا في يوم الأحد 11 أيار/ مايو 922. وقد استغرقت رحلتهم أحد عشر شهرًا في الذهاب. وكانت رحلته مليئة بالمغامرات والمشاق والمتاعب المذهلة وصفها ابن فضلان سردًا دقيقًا ومفصلًا في رسالته الشهيرة المعروفة باسم رسالة ابن فضلان. 

تُظهر لنا رسالته بالتفصيل أنثروبولوجية دقيقة منها طرق عيش الشعوب والتقاليد والجنائز والأحداث وتواريخُها والطرق التي سلكوها. وذكر عن طول الليل وقِصر النهار.

 وبسبب عدم اكتشاف الجزء الأخير من الرسالة فطريق العودة غير معروف والمُدّة التي استغرقها الوفد حتى وصل إلى بغداد.

كثير من المراجع العلمية تشير إلى أن اسم الروس الذي يذكره ابن فضلان في رسالته يعود إلى شعب الفايكنغ (روسلاغن) التي تعني بالسويدية (جذّافون) بحَّارة مقرّهم الرئيس بالقرب من العاصمة السويدية ستوكهولم. واسم الروس وروسيا مقتبس من المصدر نفسه وحتى اليوم ما زال الفنلنديون والأستونيون يطلقون بلغتهم روتسي على السويديين.

وقد نَشَرتُ كتيبًا بأربع لغات العربية والسويدية والفنلندية والإنجليزية بعنوان الفايكنغ من منظور عربي (رسالة ابن فضلان 922) ورئيس جمهورية إستونيا لانرت ماري لأنَّه كان كاتبًا مشهورًا فقد أخذ من هذا الكتيب بعض المقتطفات ونشرها في كتابه الذي نشر باللغة الإستونية وقد أرسل لي نسخة مع الإهداء.

أما الإدريسي وهو أول من وضع الدول الإسكندنافية في خريطته المشهورة، كما أسلفت، فمن أهم إنجازاته أنه رسم الكرة الأرضية مع تحديد خطوط الطول ودوائر العرض.

وما قَدَّمَه الإدريسي هو جزء عما قدمته العصور العربية القديمة للعالم وللإنسانية مما كان يمتلكه العرب في حينه من مجد وفكر وإبداع فكثير من الأبحاث والمستجدات العلمية في أوروبا ما زالت تُنسَب إلى العلماء العرب، فاتخذ الغرب نماذج العرب وبنوا جامعاتهم وشرعوا في تطويرها لتصبح كما هي في أيامنا هذه (ونلجأ إليها الآن).

الاستشراق في فنلندا

الاِستشراق في فنلندا عريق أيضاً ، تعود جذوره إلى عام 1640 عند تأسيس أول جامعة في مدينة توركو جنوب غرب فنلندا حيث كانت عاصمة فنلندا أيام كانت فنلندا جُزءاً من المملكة السويدية. وقد برز عبر التاريخ الكثير من المستشرقين في أبحاثهم ودراساتهم القيِّمة في مجالات عدة وفي أوقات مختلفة. وما زال مركز الدراسات العربية والإسلامية إلى أيامنا هذه في جامعة هلسنكي.

لقد جذبت المنطقة العربية بعض المستشرقين الإسكندناف الذين كتبوا عن الشرق العربي مسجلين وصفهم وانطباعاتهم عنه، كما أسهمت أبحاثهم وأعمالُهم إسهامًا فعَّالًا في نقل صورة عن المنطقة العربية إلى بلدان الإسكندناف. فقد كانوا منصِفين لِما شاهدوه في الأماكن التي زاروها ومن تعمقهم في دراسة اللغة العربية وآدابها والإسلام. كما قاموا بتدريس ما حملوه لأجيال لاحقة من المستعربين الذين حملوا الراية من بعدِهم عبر القرون.

ونظرًا لكثرة المستشرقين وضِيق الوقتِ سأرَكّز الآن فقط على المستشرق أو المستعرب “جورج أوغست فلين” الذي لَقَّب نفسَه “عبد الوالي” وهو أكثر المستشرقين الإسكندناف شهرةً في العالم. وُلد عام 1811 في إحدى جزر أرخبيل (أولاند) الواقعة بين فنلندا والسويد، لغته الأم كانت السويدية.

وفي عام 1829 انتقل إلى العاصمة الجديدة هلسنكي وشرع في دراسة اللغات الشرقية مركزًا على اللغة العربية وحضارَتِها، فكانت أطروحاته للدكتوراه مقارنات في العربية بين الفصحى والعاميّة كما تناول في دراساته وأبحاثه الشعر العربي ومقامات الحريري وحكايات ألف ليلة وليلة.

لعل حب الاستطلاع ومعرفة المزيد عن نمط الحياة في الجزيرة العربية والإسلام كانت من بين الأسباب المشجعة على إصرار فلين على ترك بلاده فنلندا، على رُغْمِ أخطار السفرِ آنذاك، وبخاصة في الصحراء تحت وطأة الشمس الحارقة ولدغ الحشرات. حين كانت وسيلة التنقل الوحيدة مقتصرةً على الحيوانات، وأهمها الجمل، والسير على الأقدام.

بعد أن حصل فلين على منحة من جامعة هلسنكي، عبر باريس، في تموز “يوليو” عام 1843، متابعًا طريقه إلى القاهرة فوصل إليها في كانون الثاني يناير من عام 1844 وأقام فيها نحو السنة، وفي نيسان أبريل سنة 1845 غادر القاهرة عبر شبه جزيرة سيناء، مارَّاً في صحراء الجوف. وبعد أربعة أشهر تابع طريقه إلى مكَّة المكرمة وأدّى فيها مراسم الحج. كما طاف مع الحجاج وأقام الصلاة ولقب نفسه بالحاج عبد الوالي. وفي آذار / مارس 1846 عاد إلى القاهرة وبعد إقامته فيها مدَّة قصيرة غادرها إلى فلسطين في كانون الأول “ديسمبر” 1846 ثم عاد ثانية إلى القاهرة في حزيران يونيو عام 1847. وفي كانون الأول/ ديسمبر عام 1847 شرع عبد الوالي بثالث رِحلاته وأطولها من مصر فالبحر الأحمر ومرفأ المويل على الشاطئ الغربي للجزيرة العربية ومنه إلى دمشق فبيروت ومنها عبر البحر إلى الإسكندرية فالقاهرة التي وصل إليها في حزيران يونيو عام 1849 ومنها عاد إلى الاسكندرية فهلسنكي مارَّاً بلندن ليحصُل على جائزة الجمعية الملكية الجغرافية عام 1850 كأحد أوائل الأوربيين الذين اجتازوا شمالي الجزيرة العربية.

عند عودته إلى هلسنكي عام 1850 قدم عبد الوالي وناقش أطروحته الثانية عن “ابن الفارض”.

في أول كانون الثاني/ يناير عام 1851 نُصّب عبد الوالي أستاذًا لكرسي الدراسات الشرقية في جامعة هلسنكي لكنه لم يعمر طويلاً إذ توفي في 23 تشرين الأول / أكتوبر عام 1852 قبل يوم واحد من إتمامه عامه الحادي والأربعين.

قبره البسيط في هلسنكي ما يزال ماثلاً وقد حُفِر على حجر شهادته اسم عبد الوالي فقط باللغة العربية. وتحتل صورتُه الزيتية مكانها في أكبر قاعات جامعة هلسنكي المسماة بقاعة المعلمين والضيوف.

كان عبد الوالي قد حمل معه بعض المخطوطات العربية إضافة إلى يومياته المتعددة التي كتبها في رحلته وهي ما تزال محفوظة في مكتبة جامعة هلسنكي وقد حالت المنية دون أن يحقق “فلين” أمله في ما جمعه من مواد علمية تُعدُّ كنزًا ثقافيًا وحضاريًا.

كتب فلين مذكراته باللغة السويدية وفي حالات نادرة كان يستخدم الحرف العربي عندما يكتب بالسويدية.

رسمت له صورة بلوحة زيتية تصوره بلباسه العربي بعد وفاته وما زالت تتصدر أفخم قاعة من قاعات جامعة هلسنكي.

مذكرات ما كتبه فلين عما شاهده في ديار نجد من تقاليد وعادات بأسلوب المحبة والإعجاب تعالج موضوعات مهمة للمنطقة العربية والجزيرة العربية حيث تناول تفاصيل عن طبيعة المنطقة وسكانها ولهجاتها وحضارتها وطقوس الدين فيها، مُبرزًا أهم ما قدمته المنطقة إلى العالم من حضارات وتراث، والمدهش غزارةُ معرفته بالجزيرة العربية بحقولها المختلفة حتى وصف أساليب الزراعة والرّي والغناء والموسيقى ووصف الأماكن الأثرية.

 والمثير للعجب أنّه بعد زيارتين قام بهما إلى تلك البلدان، تبقى روائع دراسته المميزة مجهولة من جماهير القراء لم يطلع عليها إلا قلة من علماء الاختصاص بجغرافية العرب وتاريخهم، في حين أنّها أعظم دراسة في موضوعها كتبها غربي في ذلك الزمان.

 ويذكر عبد الوالي في مذكراته: ” أنَّ بدو نجد والصحاري السورية وسكان القرى المجاورة التي تتشابه عندها مفاهيم اللغة يكون الأفضل لهم لو توحدوا ضمن نظام واحد”.

وبتكليف من مؤسسة خيرية سويدية – فنلندية قام الزميلان “كاي أورنبارغ” و “باتريسيا بارغ” في الأعوام المنصرمة بتحقيق وفهرسة ما كتبه فلين من مذكرات في سبعة مجلدات وكل مجلد يحتوي على نحو 500 صفحة.

ولقد سبق أن تَرجم الكاتبان الصديقان سمير شبلي ويوسف إبراهيم يزبك كتابًا عن مذكرات فلين بعنوان: “صور من شمالي جزيرة العرب” يحتوي الكتاب على مائتين و اثنتين و ثمانين صفحة هي مقتطفات من أعمال عبد الوالي” وكان لي شرف كتابة مقدمته في حزيران يونيو عام 1991.

كان الظنُّ سائدًا في المملكة العربية السعودية أن فنلندا تابعة لدول الاتحاد السوفياتي ولهذا لم يكن هناك تبادل دبلوماسي مع فنلندا. ولكن السفير الفنلندي كارلوس لاسيلا المعتمد في بيروت كان أول من عرّف بفلين بمساهمته في نشر الكتاب المذكور، ممَّا جعل المملكة السعودية تبدل رأيها فتقوم بالتبادل الدبلوماسي مع فنلندا. فانتقل السفير كارلوس لاسيلا من لبنان إلى السعودية كأول سفير لفنلندا فيها.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply