
Written in Arabic by Hadia Said
Translated into English by May AL-ISSA
The sweet voice. It comes from far away. That little girl held by the roots of yesterday and the stems of today, and a battle to live in the present and detach from the past.
Her story started at the beginning of the 1960s, when she participated in a local but famous live humanitarian TV contest in Beirut, Lebanon. It was a dream come true. She had to play a character of a poor, orphaned and abandoned boy exposed to insult and robbery by others. His drama attracted publicity, and audiences became more concerned about him. Just before she appeared in front of the camera, as she was dressed as a poor boy wearing torn dirty clothes to match a face made up to look unwashed, she had to go to the cafeteria. This was where only managers and artists enjoyed a little rest or a cup of coffee during intervals. She was humiliated by the staff, and thrown out of the cafeteria. Then the TV director discussed the choice of a cleaner child in this classy distinctive place, not knowing that she was one of the team!
The live show was broadcast and she excelled in acting the part. The theme was oppression of the poor, countrywide. A review reached the pages of the TV Magazine soon after the show finished, with the headline: “The Child who made the President Cry”.
Had she succeeded? Had she fulfilled her dreams? The story surprises us with that faint voice echoing her roots. She heard only the laughter of the boys in her neighbourhood, ridiculing her by brandishing the Magazine in her face, despite the accolades she had received from the director and the manager. The dissatisfied voice is getting higher, expressing the ups and downs, successes and failures, hopes and ambitions, silenced and isolated until the granddaughter of the writer shouts aloud and celebrates that her roots are back at Whispering Dialogue.

“الطفل الذي أبكى رئيس الجمهورية!”
قبل الصورة
هل يمكن لطفلةٍ أن لا ترى وجهها في المرآة؟ نعم، هي كذلك. ترى صوراً، وتسمع أصواتاً، ويتداخل في رأسها كل ما تراه وتسمعه وتحلم به. رأسها الآن مزدحم بأفلام وبرامج تلفزيون، وكتب ومجلات وجرائد. رأس طفلة في الثانية عشرة، ترى ما تريد أن تراه، ولا ترى ما يراه الآخرون بها. الآخرون: أمها، التي تنهرها كلما غيّرت محطة الراديو لتستمع إلى محطة بيروت الفرنسية تبث موسيقى كلاسيكية. تسمع أسماء مثل موزارت، وشوبان، وبتهوفن، وصوت الأم يعلو متأففاً من هذه “الطنطنة” المزعجة. أختها، التي تصفها بالسارحة.. بنات المدرسة، يتضاحكن على شكل أذنها اليمنى، التي تبدو مثل كف عريض يضرب تعظيم سلام! كانت تهرب منهم إلى لقطات من أفلام عربية وأجنبية، تعرض في سينما المنطقة السكنية التي تعيش فيها.
أفلام الطفلة المعجزة فيروز. مشاهد جنود جرحى يجرجرون قامات منكسة على إيقاع لحن فيلم جسرعلى نهر كواي. الصراع الأبدي بين الخير والشر، كما تقدمه حلقات برنامج اجتماعي شهير، يتكوّم أهل وطنها أمام شاشات التلفزيون الذي وصل حديثاً إلى مدينتها. إننا في بيروت أواخر خمسينات القرن الماضي.. زمن شارع الحمراء، الذي نقل جزءاً من الشانزليزيه الفرنسية، ومانهاتن الأميركية، وماي فير لندن، لتخترق الزمن والمكان، وتجعل بيروت حلماً يتحقق لعصر جديد. الطفلة تخبئ الآن سرّها في رسالة تبعثها خفية عن الأهل ورفيقات المدرسة، وكل الناس، باستثناء صاحب متجر البقالة، الذي وافق على أن تضع عنوان محله في انتظار جواب رسالتها.
نعم، هي مقتنعة بما كتبته، وتمنّت ألا يمزّق الأديب الكبير، صاحب البرنامج، رسالتها التافهة، أو يرميها في سلة المهملات. أخبرته كم تعرف عن انشغاله في إعداد برنامجه الاجتماعي الإنساني، الذي ينقل مشاكل البيوت في كل أنحاء وطنها، ويبكي القلوب، ويحرّك الضمائر، ليعرف الناس أكثر عن اليتامى والجوعى والمرضى وأصحاب العاهات، في مجتمع ينشغل بالمال والجاه والنفوذ. باحت له، وهو بطل القصص التي يقدمها مع زوجته وفريقه، إنها تريد المشاركة بأي شيء.. أي شيء يجعلها معهم ومنهم، تمثل معهم، أو تساعدهم، أو… كلمات وبوح لم تدرك أهميته أو قيمته إلا مع تلقيها الرد. كلمات قليلة مثل: (كيف خطر لك أن أرمي رسالتك الثمينة في سلة المهملات!) وترحيب بمشاركتها ودعوتها إلى المجيء لمحطة التلفزيون لتلتقي به.
بعد الرسالة والرد
لم يكن لقاءً واحداً، لكنها لقاءات، استطاع الأديب الكبير أن يرى فيها ما لا تراه، ولا يراه الآخرون لديها. هي موهوبة، ذكية، لمّاحة، طموحة، وسأقدمها في برنامجي، ستقوم بدور طفل يتيم منبوذ، لكن ما يحدث له سيوقظ أهل قريته كلهم، ليتعاونوا ويصلحوا ما أفسدوه في قريتهم وعلاقاتهم. كان عليه أن يقنع أمها وأختها وأخاها، أما والدها فكان كعادته المعجب، والمشجع الأول والأخير، والواثق بقدراتها.
هكذا وقفت بعد أسبوعين من التدريب على أداء دور الطفل اليتيم في غرفة الملابس في مبنى التلفزيون، ترتجف ذعراً وحباً وفرحاً وخوفاً وحزناً وأملاً.. تتندى عيناها الواسعتان بدموع لا تعرف لماذا، فتختار أن تمسحها بين اللحظات، لكن الأديب ينبهها، وحين يدخل المخرج ليلقي النظرات الأخيرة، يخاطبها باسم الولد الذي ستكون عليه بعد ساعة.. إنه البث المباشر.
تمثيلية كاملة تقدم على التلفزيون ببث مباشر، كأنه المسرح، غير أن الفارق أنه لن يكون مسرحاً، بل ديكورات كاملة لبيوت في قرية، وحقل، وأحداث يعيشها أبطال القصة. قصة الطفل اليتيم الذي اتهمه صاحب الحقل بالسرقة، ليحمي ابنه من السجن، والذي سرق لص القرية أجره الأسبوعي كحمّال. هي نماذج من ميلودراما ينتظرها الأهالي، وتتابعها الصحافة، وتفتح أبواب الرأي والنقاش لكتّاب في التصدي لمشاكل مجتمع وأحوال فاسدة أو مهملة، لكنه يرتفع إلى درجة الخلاف أحياناً، أو يحقق قفزة في تصحيح، أو تطوير في المعاملات وبعض الإجراءات.
هل تعلمين أن كل الناس يشاهدون هذا البرنامج، بمن فيهم النواب والوزراء، وحتى فخامة الرئيس!.. قال لها المخرج، وأثنى على المكياج والملابس، والتي حولتها بالقبعة الصوفية والسروال والقميص الممزقين إلى صبي مشرد يكاد يكون حقيقياً.
قبل البث المباشر
أعطاها المخرج قسيمة تمكنّها من الصعود إلى الكافيتريا، التي تستقبل المذيعين والمذيعات ونجوم التلفزيون والموظفين، للاستراحة وتناول الطعام والمرطبات. أرادت أن تكون بصحبة الأديب وعائلته، لكنها لم تجدهم.. كان الكل منشغلاً بمراجعة دوره، أو تأكيد مكياجه أو… حالة تفقد الفنانين توازنهم قبل تقديم أي عرض. وجدت نفسها وحيدة، نظرت في المرآة الكبيرة في الردهة المؤدية إلى الكافيتريا، فرأت صبياً متسخ الوجه بالفحم وأنواع البودرة الكثيفة. رأت شارلي شابلن صغيراً، لكنه البائس والخجول. دخلت الكافيتريا، أحست بالجوع، تقدمت إلى ركن المرطبات والساندوتشات، فوجئت بصوت ينهرها: ماذا تفعل هنا يا ولد؟! نظرت فإذا قامة رجل غريب بوجه صارم مؤنب، أنت أنهيت عملك في التنظيف يا ولد؟ مكانك تحت في المخازن، ما الذي أتى بك إلى هنا؟.. من هذا الرجل؟ ماذا يريد منها؟ التصوير لم يبدأ بعد.. هي هنا لتأكل وتستريح، لكن عمال الكافيتريا يتحلقون حولها، يعتذرون من الرجل الذي صاح بها.. إنه مدير التلفزيون، ولديه ضيوف من كبار القوم سيستقبلهم بعد قليل، ووجود صبي من عمال النظافة والنقل في هذا المكان مؤذ وغير لائق.. طردوها، فبكت وصاحت مدافعة: أنا لست صبياً، أنا بنت، أنا بنت، وسأمثل مع الأديب الكبير في حلقة اليوم، أريد آن آكل، أنا جائعة!.
أثناء البث المباشر
الصمت، الإضاءة، همسات المخرج، نظرات تشجيع الأديب، مشاهد الدخول والخروج من مشهد إلى آخر، حوارات مخزنة في الذاكرة، قلب تكاد تسمع نبضاته، وأصابع يدين وقدمين مثلجة.. قصيدة اليتيم، أبيات من شعر لم تعد تذكره، لكنها ستظل تذكر تأثيره.
بعد البث
تستيقظ مدينتها على أسبوع جديد، ويستيقظ الصبي اليتيم، طفلة تهدهد نفسها بفرح خفي وتوجس وأسى على حلم انتهى، وفرح بذكرى بلا نهاية. قبل الذهاب إلى المدرسة، يطرق مساعد المخرج باب بيتهم.. الأديب الكبير والمخرج أرسلا لها نسخة من مجلة التلفزيون، عنوان كبير: الطفل الذي أبكى رئيس الجمهورية، وتفاصيل تذكر اتصال فخامة الرئيس بالأديب وتأثره الذي وصل إلى هروب الدموع تعاطفاً مع الصبي اليتيم.
أي نجاح هذا؟ قالت أمها: المهم المدرسة. همس والدها: فخور بك. امتعضت أختها: لماذا جعلوك صبياً؟ وحين حملت حقيبتها وغادرت في طريقها المعتاد إلى المدرسة، كانت الصور والأصوات تتداخل في رأسها.. أصوات أهلها، دعوة المخرج والأديب لها لتكون معهم في حلقات أخرى، عنوان المجلة، وجه الصبي اليتيم المتسخ، والذي طمأن أمها أن أحداً لن يعرف أنه ابنتها، حتى رئيس الجمهورية!.
بعد الصورة
الطفلة التي عادت طفلة ترى ما لا تريد أن تراه.. أطفال الحي يتراكضون خلفها في طريق ذهابها وعودتها من المدرسة، بعضهم يحمل صورة وجه الصبي اليتيم الذي ظهر على شاشة التلفزيون، يصرخون ضاحكين وساخرون: هيه هيه حسن صبي، حسن صبي.. صرت ممثلة، ممثلة، حسن صبي، ممثلة.. تعلو الأصوات ثم تخفت، تتلاشى بعدها، يمضي عمرها وهي تحاول النسيان.
الآن..
تقترب منها حفيدتها، تهمس وبيدها مجلة: تيتا، حبيبتي، لا أعرف لماذا ذكرتني هذه الصورة بك. أي صورة؟ إنها مجلة فصلية اسمها همس الحوار، معتمدة من المكتبة الوطنية البريطانية، نشروا قصة أعجبتني، ومعها صورة هذا الصبي اليتيم الجميل.. لا أعرف لماذا وجدت عينيه تعيداني إلى عينيك. تقول القصة إنه الطفل الذي أبكى رئيس الجمهورية!.
---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل