
في الخامسة من العمر كنت أرافق والدي ووالدتي وهما يسيران في الشارع الذي يزهو بالأضواء والأصوات و يكتظ بالناس بملابسهم المختلفة ذات الألوان البرَّاقة المتنوعة وأصوات الموسيقى والأغاني التي اعتادت عليها أذناي الصغيرتان فهي تستهوي مرح الطفولة إذ تتعالى من الطبول والزرنة والدفوف و أفهم كلمات الأغاني وأردِّدها بلغاتها المتنوعة التركمانية والكردية والأرمنية والآثورية مع الدبكات المرافقة لها. كل هذه البهجة وفرص الفرح كانت تحيطنا وتلفنا و تمارس دائماً في الأعياد والاحتفالات والأعراس التي لم يكن يوم يخلو منها.
كان الرجال يقبِّلون يد والدي أو يحتضنونه ويقولون له: (شكراً مستر مهندس) ويحيّون والدتي بلغاتهم المتعددة وبانحناءة خفيفة من رؤسهم وأنا أنطُّ وأقفز وأغنِّي وأصفِّق وأشارك في الدبكات أو أكون ما بين والديَّ وهما يمسكان بيدي أو يطلقانها.
والدتي كانت في تلك الأيام فرحة مبتسمة وبدت أكثر حبوراً في ذلك اليوم بالذات وقد تركت العباءة تتدلى من رأسها وتنسل إلى ظهرها آيلة للسقوط والانزياح إلى الأبد. ابتسامة والدتي لم تختفِ في تلك الأيام؛ كانت تردِّد باستمرار: انتهتِ الحرب! انتهتِ الحرب! سنتخلَّص من الموت والقتل والتموين فهذه الحرب قتلتمن قتلت ونهشت بالجوع من لم يقتل بالسلاح. كنت أردِّد ما تقوله والدتي دون أن أفهم ما تعني تلك الكلمات لمجرد أن اشاركها ضحكتها وكلماتها المبهمة بالنسبة لي.
يومها كنت فخورة بنفسي؛ أنا الآن في الصف الأول من مدرسة الأحداث الابتدائية. والدي يمسك بيدي وينحني قليلاً ليسمعني و يرد على تساؤلاتي الفضولية المستمرة برحابة صدر. قلت له:
– لماذا يحتضنك الناس ويقبِّلونك، هل اليوم عيد ميلادك؟
ابتسم وقال: لا، ليس عيد ميلادي. إنَّهم فرحون لأنَّني وفيت بوعدي لهم، فقد وعدتهم بأنَّ الكهرباء ستنير بيوت كركوك و شوارعها خلال ستة أشهر من عملي هنا كمهندس للكهرباء.
-ولماذا يريدون الكهرباء في بيوتهم؟ إنَّها حلوة في الشارع.
– يا صغيرتي، يريدون الكهرباء لتكون بيوتهم مثل بيتنا، ليكون لديهم في كل بيت مذياع وثلا جة صغيرة جداً تعمل بالكهرباء.
– أنا أحبُّ المذياع لأنَّني منه أسمع (عمُّو زكي) و(جنَّة الأطفال).
– وأنا أحبُّ المذياع أيضاً لأستمع للموسيقى والأغاني.
– أنا أحبُّ ثلاجتنا الكهربائية الصغيرة. أحبُّها جداً جداً أكثر من تلك القديمة التي كان يصدر منها الدخان و(مامي) تمنعني من الاقتراب منها.
– لأنَّ (مامي) تخاف عليك من النار والدخان فلقد كانت الثلاجة القديمة تعمل بالنفط ويخرج منها الدخان إذ لم تكن في ذلك الوقت ثلاجات تعمل بالكهرباء.
والدي وعد ونفَّذ. والدي الإنكليزي كان حلمه إيصال الكهرباء إلى البيوت والشوارع في العراق جميعها وأن يكون في كل بيت مذياع وثلاجة، ولكنَّ أغلب حكومات العراق حينها لم تمنح المدن والنواحي والقرى جميعها أو الناس جميعهم هذا الحق وهذه الوسيلة الحضارية المهمة.
_____
* جزء من كتابي “صور متحركة” من فصل صفحة كركوك