نشأة النَّقــــــائض*

فالح الكيـــــــلانيّ

   النقائض نشأت في العصر الجاهلي ضمن فن الهجاء فكان بعض الشعراء  يهاجي الشاعر الآخر وينال منه في نفسه وخلقه وعرضه ورهطه وقبيلته، وكانت تأتي ضمن فن الهجاء المعروف. فهي إذن نوع من الهجاء المتطوِّر وفق الزمن المقالة فيه. 

  النقائض من الفنون الشعرية القديمة لأنَّها عرفت منذ العصر الجاهلي إلَّا أنَّها كانت ضمن غرض الهجاء، فقد كان شعراء القبائل المتحاربة يتراشقون بالشعر كما يتراشقون بالسهام، وكانوا يتهاجون ويناقضون بعضهم أقوال بعض، فينتصر الشاعر لنفسه ولقومه فيوجع غريمه فيرد عليه شاعر القبيلة الأخرى. ومن أغرب ما قيل قول الشاعر تأبَّط شرَّاً :

عاري الظَّنابِيبِ مُمْتَدٍّ نَوَاشِرُهُ

مِدْلاجِ أدْهمَ واهي الماء غَسَّاقِ

حتى إذا ظهر الإسلام تحوَّلت هذه القصائد، وأعني بهــا النقائض، بين الشعراء من المسلمين وشعراء المشركين،  كلٌّ ينصر جماعته. فقد دافع الشعراء في المدينة المنورة  عن الإسلام والمسلمين ومن استشهد منهم ودافع شعراء الشرك في  مكة عن وثنيَّتهم وأصنامهم ومن قتل في الحرب من المشركين.

 يقول الشاعر الهوازنيّ:

ثمت نــزل جبريــــــل بنصرهم

عن السماء فمهزوم ومعتنق

 عنَّا  ولو غير جبريل يقاتلنـــــا 

 لمنعت إذن أســـيافنا العتــــق

   النقائض أيام الحبيب المصطفى محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم- تعدّ امتداداً لما كانت عليه النقائض في  العصر الجاهلي إلَّا أنَّه أصابها التغيير من حيث الغاية إذ أصبحت في مضمونها  دفاعاً عن الإسلام وعقيدته والمبادئ الدينية ولما جاء به الإسلام  بعد أن كانت أغراضها دفاعاً عن أعراض القبيلة. ومن أمثلة التزام الشعراء الإسلاميين بالدعوة الإسلامية واقتباسهم معاني القران الكريم في شعرهم قول الشاعر النابغة الجعدي:

الحمــــد لله لا شــــــريك لــــه 

من لم يقلها فنفسـَــــه ظلَمـــــا

المولج الليـــــل في النهـــــار 

 وفي الليــــل نهـــاراً يفرِّج الظُّلَما

وتتميز نقائض الشعراء المسلمين بالتزامها الديني والأخلاق الإسلامية السامية فنلاحظ ابتعاد شعرائها في قصائدهم عن فحش الكلام وسوقيِّه وخلوَّها من التَّوغُّل فيجرح الأعراض وانتهاك الحرمات.

   ومن المعلوم أنَّ العوامل المؤدِّية إلى نشأة النّقائض، وأوَّلها العصبيَّة القبليَّة التي ما زالت تجري في عروق الشاعر العربي أو المجتمع العربي منذ الجاهليَّة سواءً في تمجيد قبيلته وعائلته ورجالها، أو بالتّفاخر بالنسب أو بالتحدث عن الشرف والمكانة المرموقة عند الشاعر أو أسرته أو رهطه أو قبيلته أثناء  الحرب أو السلم- هذه العصبيَّة ما تزال موجودة في مجتمعاتنا الريفية والقروية وفي نفوسنا منها بعض الآثار الرجعية التي لا تنفك عن هذه النفوس  .

   فالنقائض قصائد شعرية تشترك في الوزن والقافية والروي، فكلُّ قصيدتين متناقضتين متعارضتين متضادَّتين تأتيان من بحر واحد وروي واحد وقافية واحدة كأنهما قصيدة واحدة لولا اختلاف المقاصد والأهواء لدى الشاعرين أو لولا اختلاف الفنون الشعرية في قول كل منهما حسب أهواء الشاعر وقابليته الفنية والادبية والثقافية.

    ازدهر هذا الفن من الشعر في العصر الأموي ازدهاراً كبيراً وواسعاً وتحوّل إلى فن مستقل بذاته له أصوله وخصائصه وعناصره وأساليبه ومراميه وأبعاده السياسية والاجتماعية فاحتلّ المكانة العالية والعزيزة الرفيعة وأصبح في المنزلة العالية في  نمط  الشعر العربي. وكانت الحياة الاجتماعية والسياسية والقبلية في العصر الأموي مساعدة ومساندة لقيام مثل هذا النوع من الشعر وقد ساعدت هذه الأمور على الرجوع إلى العصور التي قبله ونبش ما كان عليه فيها من الجاهلية الأولى وما اعتمده الشاعر في قصيدته. لذلك يحقُّ لنا أن نقول إنَّ النقائض عاشت في ظل العصر الأموي وازدهرت قصائده وسايرته إلى النهاية وبلغت من الرقي في درجتها الفنية وآثارها الأدبية والاجتماعية مبلغاً واسعاً في منتهى ما بلغت في تاريخ الشعر العربي. وقد شاعت النقائض في هذا العصر الأموي نتيجة للصراع الحزبي أو القبلي أو العداء الشخصي بين الشعراء أنفسهم وحتى أثناء المعارك التي دارت بين الفرق والأقوام المتحاربة في ربوع العربية  حتى أصبحت فنَّاً واسعاً جديداً من فنون الشعر العربي له شعراؤه وفرسانه وقيلت فيه القصائد الطوال الرائعة التي أعجب بها الأدباء والنقاد وعُدَّت  فيما بعد  من روائع الشعر العربي.

  ومن شعر للفرزدق يعتز ببطولة قومه هذه الأبيات:

 منَّا الكواهل والأعناق تقدمها 

والرأس منا وفيه السمع والبصر 

 ولا نحالف إلَّا الله  من أحد

غير السيوف إذا ما اغرورق البصر

ومن يمل يمل المأثور ذروته 

حيث التقى من حفافي رأسه الشعر

أمَّا العدو فإنَّا لا نليــــن لهم

حتَّى يلين  الضرس الماضغ الحجر

  * صدر في نيسان (ابريل) 2023 كتابي الموسوم ( المناقضات والمعارضات في الشعرالعربي) عن دار المرايا للطبع والنشر والتوزيع  في  بغداد والكتاب من مجلّد واحد يقع في جزأين من القطع المتوسط و650 صفحة.

 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply