معاذ الآلوسي وحوار الذكريات

المعمار العاشق للأصالة والفنّ الرفيع والعميق بإنسانيته. طاف فنّه المعماري بين بغداد ومسقط وحواضر أخرى. وبين هذه وتلك يرسم ويخطط ويكتب. 

حديثنا ذو شجون مع الأستاذ معاذ الآلوسي نبدأه بـذكرى المكان والبدايات والمعمار والفنّ

معاذ الآلوسيأؤكد، في مجمل نصوصي المحكيّ منها والمكتوب والمرسوم، ومنذ أن أتيح لي اتخاذ موقف خاص بي، اتخذت مظلة لكافة تصرفاتي المهنية وغيرها، موقفاً في نمط  العيش. جعلت العمارة موقفاً إنسانياً في الأصالة وخدمة الإنسان، نوعاً من مسلك في الفروسية والمشاركة في  ما يدور في العالم لإسعاد البشر لا ممارسة مهنة فقط. أنا اتعامل مع البشر والحجر في هذا الزمن الذي أنا منه، وأحاول الزيادة على التركة بما أنا قادر عليه، وأسلمها للخلَف كما استلمتها من السلَف مع بعض الزيادة.

هذه  الأسطر تفسر لي في كثير من الأحيان أسباب اتخاذي نهجاً معيَّناً في حياتي المهنية وغير المهنية.

أنا ابن عائلة بغدادية ضاربة في القدم، حامل لتركة كبيرة أحافظ عليها بمسؤولية، بمجد بغدادي أصيل؛ فوالدتي ولدت في الكرخ في الست نفيسة ووالدي ولد في الرصافة في العاقولية، وبينهما نهر دجلة، وطفولتي ومراهقتي في منطقة الأعظمية التي يلتحفها أيضاً دجلة بحنان.

إذن، هو المجد البغدادي بأكمله. 

والدي كان فنِّيَّاً  في مديرية ري بغداد، وكان يمارس الرسم التشكيلي هاوياً.

والدايَ جليسا كتاب، وكانت لهما مكتبة عامرة. 

من هنا اكتسبت منهما المسطرة والقياس في قيم الجمال والأخلاق. 

هَمْسُ الحِوار: معاذ الآلوسي وفيّ للمكان، للإرث، للأصدقاء حتى في تنقلاته. يأخذهم معه في ذاكرة ويلتقي بهم في مكان ما بين الأردن واليونان ولبنان. 

هناك من يقول إنَّ معاذ الالوسي حامل وطنه  معه في ترحاله، وأينما حل. نعم. يثير ذلك استغرابهم لكن عندي ذاكرة قوية جداً والسبب:

 أنَّ الحدث أو” الشيء” حسب تعريف الأقدمين من أهل الكلام والكلمة وغيرهم من الفلاسفة هو ما “يزيح له محلاً ويستحق الفهرسة والخزن في التلافيف”. كذلك، فأنا أراه وأعيشه. لذا فأرشيفي عامر بالجميل منه والأصيل بخاصَّة، وطبعاً هو بدوره المكوِّن للشخصية، هو الباطن منها، غير تلك الظاهرة. 

لذا فأنا عندما أرغب بتسجيل ما فات ومضى أتذكَّر صورته. إذن، هي استعادة أو اجترار، أستعيد ما هو مفهرس ومخزون، لا سيَّما المهم والجميل، في فلم أو مسرحية أو مبنى أو كتاب ” قول” مستحقٌّ يسجَّل عندي كصورة. لا تنسي أنّي معمار، وهذا ما عليه أن يكون أي معمار  موسوعي.

سئلت مرة كيف لي أن أصمِّم وأرسم وأكتب وأصوِّر وأقرأ. والجواب بسيط: أنا معمار هذا نمط عيشي، مواكب للجميل والأصيل. لذا لا يقتصر على زمن أو مكان. إنَّها شمولية في العيش الجميل الحلو. أجده حتى في القبح. ماعدا الصلافة والابتذال، أزيحهما ولا يحجزان لهما محلاً عندي. من هنا يأتي ردِّي على المداخلة التالية أيضاً، في الأصالة والمكان.

هَمْسُ الحِوار: عن الأصالة والمكان والمحافظة عليهما: على الطقوس والمناخ والتاريخ. وعن الأصالة وما بعد الحداثة، نتحدث. عن عُمان، مثلاً، التي لك فيها من تصاميم الكثير منذ السبعينات من القرن الماضي؛ تقول في أحد اللقاءات إنّها الوحيدة التي حافظت على الأصالة حتى حين استوجب تغيير طريق أو تعميره فتبقى المحافظة عليها واجبة. حدثنا عن ذلك وماذا لاحظت بعد زيارتك الأخيرة لها؟ 

 أنا لا أهمِّش ما أراه ذا قيمة أصيلة وذا تأثير مباشر على نمط عيشي، قيم  تغنيه أو تدغدغه، تسجِّل، تخزن ثم تلهم عند الحاجة، وفي كثير من الأحيان من غير وعي، والسبب أنَّها متغلغلة ضمن البنية ومنها تأتي صياغة الموقف. أتعلَّم وأُصوغ الأحسن والأجمل. حسب مقاييسي الشخصية، إسطرلابي الخاص. 

لذا فعند تكليفي بتقديم خدمتي في مسقط في مستهل خروجي من بغداد في منتصف السبعينيات، أصبح القرار بالكامل على عاتقي لأول مرة بمفردي وليس ضمن مجموعة مكتبنا الرحم الاستشاري العراقي بقيادة الأستاذ رفعة الجادرجي. 

وجدت حالي أمام تحد تفرضه هذه المدينة الأصيلة؛ أين أنا ممَّا تعلمته والقيادة بيدي؟ 

كنت محظوظاً بمدينة كمسقط، أصالتها واضحة لا تسمح بالشطط، وتكمن بوضوح ضمن المدرسة ” البغدادية” التي أنتمي اليها. لدي قيم تحترم الغير ومكانه وزمانه، وأنا صاحب موقف معاصر يواكب ويتحدى، فتي يحتاج التجريب. التحدي أمامي وأنا مستعد للمنازلة. من هنا اتخذت قرار البحث عن الأصل المتأصل والتعرف على ما أريد وتأكيد ما تعلمته وآمنت به وهو احترام عمل السلف وجهدهم. آلاف من السنوات في التجريب من قبل بشر ذوي تقاليد وأبناء نعمة ونمط عيش متميز، على شكل تركة ماثلة، نمط عيش يتميز عن غيره عبقري المكان. وأمّا ما أسميته لاحقاً الجنّيّ (جنّيّ المكان)، فبتقدم التعلم الاستزادة والممارسة أصبح هذا الجنّيّ في أي محل أحلّ فيه الماطر والوازع للعمل ولقطة انطلاقه. 

زيارتي الأخيرة لعُمان أعادت لي الثقة وأزالت الشعور ببعض الخيبة. وجدت أنَّ أفكاري المهنية المتعددة والمتنوعة في مسقط المدينة ونسقها الحضري كانت بداية صحيحة في التكوين والتعريف بخصوصية هذه المدينة. وأكَّد ذلك طيِّبو المعشر والصحبة المهنية، قدَّموني واستقبلوني عند زيارتي لها بعد نصف قرن: “واضع بداية تأكيد الهوية”. إذن، الموقف كان صحيحاً وما زال. أبنيتي ضمن النسيج الجميل المميز دون تشويه أو تلويث ولا استعارة غريبة، إنَّما امتداد معاصر مواكب للعطاء الإنساني بل يضيف عليه.

لا بدَّ أن أنوِّه هنا بالترحال والتنقل وتعرُّف أنماط غير التي أنا منها، أنماط جديدة تفسح لي المجال وآفاق جديدة تمنحني انفتاحاً ذهنياً في التفكير المعاصر. ولها تأثيرات واضحة على مواقفي وتقويمها  بانت لي من إعادة التقييم؛ وجدت أنَّ أعمالي خلال اشتغالي من مكتب بيروت لها ما يميِّزها وأنَّ أعمال مكتب أثينا لها نكهة أخرى لكنها ضمن الأطر العامة ” الموقف”. إذن، هذه الأطر غير جامدة وإنَّما تنضج مع الزمان والمكان، وهناك من يلومني على الالتزام بهذه الأطر وجوابي هو الموقف من المهنة؛ احترام الغير والمكان والإنسان الآخر، بمواكبة الزمن. 

كلما تجولت تعلمت وقارنت ما أنا عليه بموقع  زميلي الآخر من الثقافة الأخرى؛ مقارنة معرفة ومكان وزمان. أين موقعي وموقعنا من هذا العالم؟ من إنسان اليوم وقيمه؟ أجري مقارنة صحية من دون عُقَد تخلُّف أو فقدان ثقة بالنفس.

هَمْسُ الحِوار: أين بغداد والعراق بأكمله إذن من المحافظة على الأصالة؟ شارع حيفا، مثلاً، بأقواسه التي تذكِّرنا بالمدرسة المستنصرية، كم من ذلك تعدُّه ممَّا بعد الحداثة؟

إلاّ في عودتي لبغداد بعد الترحال وبدايته حيفا في بداية الثمانينات.

الهاجس فيه من تسلط المكان والعشرة. صممت دارة سيف الدين ثلاثة تصاميم كاملة لكي أوافق على ما يرضي طموحي ولو قليلاً. هنا حيفا أصبح نقمة، أصبح خطَّاً أحمر وما جاء بعده امتداد له في المقارنة والسيرة. 

المهنة، المحنة الأخرى.  وهناك سلطة الانتماء لمسقط رأس والدتي، وهناك وهنا قبور أجدادي تراقب وتتوقع. اختلفَ الوضع بأجمعه. الضغط ولد التحدي والحافز، الدكتور خالد الجادر يعدّ منتوج هذه المرحلة الأكثر أصالة في مجمل أعمالي المتفرقة أينما  كانت، أنا أعزوها إلى اكتساب الثقة  والنضج ” مع العمر”. بالطبع حيفا درس في معرفة موقعي: أين أنا من أهلي ومن الإنسان الفرد؟

بعد ذلك يأتي التحرر واكتساب الثقة. وضعني حيفا وجهاً لوجه أمام تحدٍّ وهشاشة في الموقف منزوع التردد. 

هذه إحدى فوائد مشروع حيفا مهنياً وإنسانياً وشخصياً. تحرَّرت من كلِّ وجل ولم يعد ثمّة تردد في قراراتي. لي صك بتخويل خالٍ من كل قيد أو شرط، لا وجل في قراراتي، أصبو إلى ما يستحقه أهلي، وما استحقّه أنا شخصياً. تعمَّقت في معرفة شخصي ومنها خدمة وطني.

هَمْسُ الحِوار: هل لدراسة الزراعة والتركيز على المعمار أثر في تصميم البيوت والمباني: الشمس والهواء وطبيعة الأرض. هل صممت حديقة أو متنزَّهاً؟

دراستي في السنة الأولى في كلية الزراعة كانت أشبه بالتحضيرية. لأنَّ القرار متخذ بإصرار، “لا دراسة من غير العمارة”. إذن لا دروس زراعية ولا أخرى. كنت عارفاً ما أريد. لا حياد  في موضوع المسلك.

الزراعة كانت لتكوين صداقات واكتساب وقت. 

 نعم صممت حديقة في ليماسول، ” جن بارك”، عبثية وقبرصية. 

هَمْسُ الحِوار: نأتي إلى التكعيبية وما وراءها. بيتك المكعّب يذكِّرني ببيوت أجدادي في أبي الخصيب في البصرة، ففيه لمحة منه. تلك الباحة مركزها النافورة وحولها الغرف بطابقين هندية مكعَّبة ومربَّعة، حتى تصميم البلاط (الكاشي) كأنَّه سجَّادة نُسِجَت باليد. هذه البيوت العربية الأصيلة حوَّلتها ببساطة إلى بيت حداثي. حدِّثنا عنه لطفاً. 

بناية آيا في بغداد، بعيونها المتكحِّلة التي تبحث عن بغداد الأصالة، وهذا ما رأيته شخصيّاً في شبابيكها المتناسقة، ما هي؟

داري  المكعَّب قد يكون له مسار منفرد موازٍ لمهنتي في حياتي المهنية. أقول في إصراري على دراسة العمارة إنّها ضمن هذا المسار. فتحتimg_6220عيني في (راس الكنيسة) في دار بغدادي مثالي في تصميمه المعماري وبالتالي نمط العيش، دار ضمن النسيج البغدادي الأصيل الموروث. كان  الدرس الأول الأساسي ثم انتقلنا إلى منطقة الحارة في الأعظمية في جوار دجلة. كان دجلة حنوناً في دورته يلتحف الأعظمية ثم الكاظمية. فتحت عيني على ألوان بيئة قد لا تشبهها أخرى ولون فن تشكيلي من خلال ممارسة والدي الرسم.

ثمَّة دروس أخرى متعددة؛ مدارسي الابتدائية والثانوية، معالم تدريسية، أساتذتي الذين كانوا أفذاذاً وأكثر. كلها شرنقة عيش قارنتها بعيشي في الأصقاع الأخرى، استوعبتها. سكنني “فولي” جنِّي. هذا الجنِّي ابن المكان لم يكن يحتاج من يساعده على الولادة، يحتاج إلى الدغدغة، إلى التجربة.

إذن أنا ابن بيئة ضاربة بالقدم؛ آلاف من سنين في منتوج متمدِّن معماري متحضِّر، ابن عمارة وبيئة متميزة، ابن موروث وأجيال من البحث، وابن من شارك في بناء ثقافة ذات خصوصية. كان عليَّ أن أعرف نفسي جيداً وأن أحترم عمل السلف بعد استيعابه وفهمه والوقوف إجلالاً له. وبذا تبيَّن لي أنَّه من الممكن المنازلة  بما لدي من النسق المعماري الموروث وضمن التوجه الإنساني العام. 

بالممارسة والترحال تعرَّفت حضارة الغير وواكبت الزمن المعاصر، الممارسة كانت مستمرة في تجارب لا تنتهي في سبيل معرفة الهوية المعاصرة، خمسون سنة من الممارسة  بغية اكتساب الخبرة والبحث عن الأصح، وكثير من المعاناة والقلق والتقصي لاكتساب الثقة بالمنازلة. بعد الترحال ازدادت الرغبة في الاستمرار في  النهل المعماري خصوصاً بعد نعمة أو نقمة شارع حيفا، مشاريع شطحات خلاصة التصوف المهني. فجاءت بناية آيا ودار عمَّار قمبر ودارة سيف الدين ودار ارستاديمو  بلافاكي في ليماسول. 

ثمَّة تصوُّف إنساني آخر في معاملة المظلوم في مدينة الثورة، الإنسان ثم الإنسان، وطبعاً في  الخلاصة المكعَّب المأسوف عليه، خلاصة الشطح والتحدي والتصدي للتقاليد البالية والالتزام بالهوية المبطِّنة متمثِّلة العيش البغدادي الأصيل والمتميز.

هَمْسُ الحِوار: يُقال أحياناً أنَّ كلَّ معمار عليه أن يكون رساماً تشكيلياً وفي بعض الدول الغربية يستطيع طالب الأكاديمية الفنية أن ينتقل إلى الهندسة المعمارية، ما رأيك؟ 

أكثر المعماريين إبداعاً من له القدرة  على استعمال القلم في وضع تصوراته الفكرية على شكل وسيلة إيضاح، هو ليس شرطاً مطلقاً ولا هو من ضروريات اتقان المهنة، فهناك من يفكر ويضع فكرته بطرق شتى ويبدع، لكنّه في التخطيط ضروري، ويمكن تنميته بالتدريب والتجريب، بالتشكيل والرسم الحر،  وهو منحى آخر في التعبير عن الفكر. ليس كل المعماريين تشكيليين. 

الدراسة الفنية والعمارة مترابطتان لكن غير متزاوجتين. وطالب الفن في الفكر قد لا يوائم بين توجهه وإتقانه في العمارة. 

والأهم مقدار التحرر عند التشكيلي ومقدار التعبير عن الذات وترجمة المتطلبات في اختلاف كلي.

اليوم دخل ” فلسفتي”  فرع ثالث هو عمارة البرامج المعمارية، أي عمارة الحاسوب وبرامجها. بالنسبة لي هو اتجاه جديد مستقل ومسلك آخر محترم. عوالمي ” مهنة أخرى” خط إنتاج معماري يختلف عمَّا في العمارة من إبداع وإصالة محتشمة  كخط إنتاج السيارات والروبوتات.   

هَمْسُ الحِوار: حدِّثنا عن التخطيطات الأولى في الفنّ التشكيلي حتى وصولك إلى الضوئية وما قادك إليها؟ وهل تستخدم الفنّ الإلكتروني كذلك؟

أنا فتحت عيني على التشكيل وأنا طفل ، طلَّة دارنا في الأعظمية على نهر دجلة، مرسم لوالدي وصديقه  الرسام الكبير محمد صالح زكي  أبي زيد. كل ذلك علمني تذوق اللون، الاصطناع مضافاً إليه ما هو طبيعي، في غروب الشمس وشروقها على سطح دجلة وفي انعكاساتها على قباب الأضرحة في صوب الكاظمية المقابل للأعظمية. ودراسة العمارة كانت نهاية المنى وربَّما الموجِّه الأهم في اختيار المهنة . 

العمارة يصاحبها التوجّع والأرق والقلق، إذن، فالمخرج والمهرب لتفريغ الهموم هو التحرر في التعبير خصوصاً عند المحن والكآبة الناتجة عن الكامن السالب والواقع  الكئيب، كالحروب والتغرب والمعاناة المصاحبة له. هذه كلها تولد شحنات سالبة ذهنية وعاطفية، فيها سخط، قد تؤثر على الفكر المعماري. أنا كنت أفرغها من خلال الرسم والتصوير والقراءة الحبيب الأزلي منذ الصغر. إلى يومنا أفرِّط في مناحي العيش الجميل إلّا القراءة، أنا جشع فيها وأتغذّى عليها في الوريد والشرايين والتلافيف.

هَمْسُ الحِوار: تذكرُ بودٍّ واحترام جميل علاقتك مع أصدقائك الراحلين -رحمهم الله – مثل رفعة الجادرجي ووجدان نعمان ماهر. ما تأثير الأستاذ رفعة الجادرجي عليك وما الذي أضافته وجدان نعمان ماهر إلى عملك؟ وماذا عن الأصدقاء ووفائك المعهود، ماذا أضافوا لك وماذا أضفت لهم؟

أنا غني جداً جداً. رأس المال عندي لا يثمَّن لكنه عملة خاصة بي، الصداقة والزمالة. والأهم أنَّها لا يحددها عمر أو جنس أو جاه بل الطيبة والأخلاق والقيم. من لا يوائم بينها لا يتحمل مواقفي فيهرب وربما يكرهني، وأنا متأكد أنّهم كثر. لكل صديق وبخاصة الزميل أو الزميلة، ما يربطني بهم من معرفة أو موقف وكلها بطيبة ، لذا أنا أعتز بهم. نساء ورجالاً.

القلة القليلة جداً وربما أقل من أصابع اليد الواحدة من وضعت عليهم غشاء الرفض. لا  أعرفهم بالرغم من قرب بعضهم أو بعضهن .

رفعة  الجادرجي صديق ومعلم وشريك درب، استلمني خريجاً شاباً ودامت الصداقة إلى اليوم من خلال بلقيس زوجته الصديقة القريبة.

وجدان عرفتها شابة طالبة، فيها الأصالة والأناقة والجمال بأنواعه، في النفس والمظهر والفكر والتصرف، لذا هي  من الصديقات المفضَّلات عندي. رحيلها آلمني ويؤلمني.  

هَمْسُ الحِوار: حين تمسك القلم أو مفاتيح الكومبيوتر لتكتب وتتذكر وترسم هل تتمازج العمارة مع الذكريات الشخصية؟

طبعاً. العمارة  نمط عيش كما أدَّعي دائماً، واليوم  في عمري هذا، أعتقد جازماً أن هذا النمط في العيش بدأ معي منذ الصغر. التعايش مع اللون والجمال والشكل أساسه الطفولة. لذا أنا أصرُّ على أنَّ من يرغب في دراسة العمارة عليه أن يتعرف عليها منذ الصغر ولا يختار مهنته وكأنه ذاهب من أجل الشهادة الهندسية أبداً. كثير من معماريينا اليوم لا فائدة من دراستهم العمارة أو الفن ولعلّ منهم من هو كاره لمهنته يقاسي من ممارستها، ربما كان سيصبح أكثر فائدة لو درس الطب أو الهندسة الكهربائية، تؤهله شطارة واجتهاد ومعدل عالٍ.

هَمْسُ الحِوار: هذه الثلاثية من مذّكراتك، لِمَ اخترت أسماءً يونانية لها؟

«نوستوس: حكاية شارع في بغداد»

«توبوس: حكاية زمان ومكان»

«ذروموس – حكاية مهنة»

أنا أينما حللت لا أقبل التهميش، أي لا أحتمل أن أكون جالساً على التل لا ناقة لي في تاريخه أو في نمط عيشه أو تقاليده. قد تختلف القيم لكني إنسان قبل كل شيء، مثلهم،  فأنسجم وأتخلل في تلابيب ذلك المكان. لذا فإطلاق هذه الأسماء هو ما تعنيه تلك الكتب في محل كتابتها. الأهم من ذلك أنَّ الذين منحوني مأوى لمدة الأربعين سنة الأخيرة لهم حقٌّ عليَّ. وعلى الرغم من اختلاف اللغة فقد تواصلت الأفكار من خلال العناوين أعلاه. 

هَمْسُ الحِوار: وهل كان لاختيارك اليونان مقراً للإقامة علاقة بالتاريخ والأصالة؟ 

نعم بالتأكيد. أنا زرت اليونان وعمري تسع عشرة سنة عندما بدأت دراسة العمارة. مخرت البحار بين الجزر. الأبيض محبتي له قديمة، إنّه حوض الحضارات. اليوم أنا اطلق عليه “البحر البض” وأعيش بجنبه كالمكعّب  على دجلة جمال عيش معماري أصيل.

اختياري العيش مدروس بعناية؛ الإنتاج في المكان الجميل الملون مع الإصرار على عدم فقدان هويتي هو سبب اختيار أثينا عند  تهجيري  من بيروت بسبب الحروب. ومن أثينا انتقلت إلى الأقرب وهي قبرص. اخترت البحث عن طاولة وسقف للعيش بدل الهجرة و”التغجُّر”. “هجرتي/غجري” في موطني حيث ينكر حق الإنسان في العيش الكريم. 

الهجرة الأولى في  ١٩٧٤،  وبعد حيفا في ١٩٨٩ إلى قبرص.  

هَمْسُ الحِوار: وما مدى الترابط بين العراق واليونان كما تراه الآن؟

عجيب هذا الترابط، أنا عارف أن “إيسوبس” الحكَّاء الإغريقي زار بابل سنة ٥٠٠ قبل الميلاد ونقل أكثر أساطير البابليين إلى التاريخ الإغريقي فظهرت في الملاحم المغنَّاة. والعكس صحيح أيضاً. 

 نحن نعرف أنّ كثيراً من كتابات الإغريق منذ طاليس قد احترقت ولم يبقَ منها شيء، واستعادوها من خلال تراجم بغداد العربية. 

أساطيرهم خيانات وتراجيديا، وما أورفيوس إلّا كلكامش آخر. 

من جميل الصدفة أنَّ الأديبة الكبيرة لطفية الدليمي أطلقت علي الحكَّاي البغدادي، وأنّ القائمين على جامعة المثنى أطلقوا عليّ -مشكورين- كلكامش  البغدادي، وهي شهادة تكريم جميلة.

 أمّا القبارصة فيدعونني نوستوس. 

إذن، أنا كعراقي مرابط في مدن الإغريق، متفاعل مع الأساطير. قضيت نصف قرن من العيش الجميل مع حوريات البحر وآلهة الإغريق من دلفي مقر إقامتي في اليونان حتى اماثوسيا مقر أفروديتي في قبرص.

 بعد هذا العمر المهني الطويل أجدني غنيّاً بما اكتسبت خلال ترحالي وتنقلي بين الحضارات المختلفة وأضفته إلى هويتي فساعدني على معرفة ذاتي بالتفصيل.

تُشرّفنا دائماً في هَمْس الحِوار أيّها العراقيّ الأصيل بأحاديث شجيّة ولكَ منّا طِيْبَ التحايا

وها نحن نتوه في خضّم المعمار الرائع:

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

1 Comment

  1. استمتعت بكل هذه التفاصيل الحياتية فالف شكر لهاوالف تهنءة لكل هذه الحياة المليئة بالإنجازات والنجاح دائما انشاءالله

Leave a Reply