Our Individualism and Theirs ~ فردانيَّتهم و فردانيَّتنا

Kamel Ghozzi

political painting by Durba Sen

Abstract

This article is a comparative sociological view on the rise of carnivalesque forms of contest that highlights the visibility of the individual in political collective action in Western and Arab societies. 

The author describes the “carnivalesque” phenomenon of Western youth as a cultural phenomenon reflecting the transition of Western societies from a “first modernity” to a “second modernity” stage. This great transition has deeply eroded big social structures and major institutions such as social class, family, neighborhood, and church. The process of social change has, in turn, led to a major decline in Western societies’ collective identities, caused interruptions in their collective memories, and gave way to a sharp rise of a bored globalized middle-class Western youth. 

The author describes Arab youth carnivalesque forms of contest as phantasmic forms of hybridity revealing an identity crisis in a youth suffering from high levels of normative deregulation. In this global age, the Arab society’s traditional forms of solidarity have considerably weakened, the flow of its centuries’ old memory has been deeply interrupted, and   no new norms are being born. In this interregnum, a segment of urban middle-class Arab youth was left to search for its soul. 

فردانيَّتهم و فردانيَّتنا

ملاحظات مقارنة حول بروز ظاهرة الفردانيَّة في التَّعبير الاحتجاجيِّ الجماعيِّ

كمال الغزِّيّ

شهد الشارع التونسي مؤخَّراً تعبيرات احتجاجية ذات أشكال جديدة وغير مألوفة في تاريخ التقليد الاحتجاجي التونسي. اتخذت هذه التعبيرات أشكالاً كرنفالية/احتفاليَّة أحياناً، وتخللتها أحياناً أخرى الصور والموسيقى وأغاني الراب والألوان التعبيرية المتنوعة، وأثَّثتها في الغالب مجموعات شبابية ترفع شعارات ذات طابع ثقافي، تدعو إلى ضرورة قبول المجتمع والدولة بشرعية اختياراتهم الهووية المتمردة على المعياريات الثقافية التقليدية، التي أصبحوا يرون في محرماتها خنقاً لحرياتهم وغمطاً لحقوقهم.

في هذه الظاهرة  الاحتجاجية الجديدة خاصيات قد تلفت انتباه علماء الاجتماع والمهتمين بدراسة أشكال الاحتجاج عموماً.  أولاً، يلاحظ ضمور نسبي في محتوياتها الطبقية/الاقتصادية كتلك التي كانت، إلى وقت قريب، تهيمن على معظم أشكال الحراك الاجتماعي والسياسي في الشارع التونسي، سواء كانت حزبية أم نقابية أم طلابية.  ثانياً، ما يسترعي الانتباه فيها قوة محتوياتها الثقافية التي من خلالها يقدِّم المحتجُّون أنفسهم كضحايا قمع ثقاقي بالدرجة الأولى. ثالثاً، هذه الأشكال الاحتجاجية وإن كانت تحمل في طياتها حس الإنتصار لمضامين و قضايا ذات أبعاد كونية وإنسانية، فإن المنطق الإستعراضي هو الذي يبدو في الحقيقة طاغياً على تعبيراتها و ليس المنطق المطلبي. بتعبير آخر، لا يظهر بشكل واضح لمن يرصد هذه الأشكال الاحتجاجية من خارجها أنَّ الهم الأساسي للشباب الذين يأثثونها فرض تغييرات سريعة في المجتمع باتجاه تحقيق  مضامين الشعارات التي يرفعونها، بقدر ما يظهر حرصهم على تأكيد التضامن بينهم كأفراد يجمعهم انحيازمشترك لقضايا واهتمامات مشبعة بالرمزية، كالمساواة الجندرية، أو مناهضة العولمة المتوحشة، أو حماية البيئة، أو دعم السلام العالمي و مناهضة الحروب، أو شرعنة المثلية كنمط عيش بديل، أو تقنين تعاطي الحشيش، أو تنسيب المطلقات المقدسة.

الظَّاهرة في فضاء غربيّ معولم: بين عصر “الحداثة الأولى” و عصر “الحداثة الثَّانية”: قطائع في الذَّاكرة الجماعيَّة وفردانيَّات قلقة

في بلدان الغرب “ما بعد المحدثة و شديدة التعولم”، أصبحت هذه الصور الاحتجاجية غالبة على أشكال الحراك الاحتجاجي الشبابي منذ بداية الثلث الأخير من القرن العشرين. إلَّا أنه في تلك البلدان أيضاً، قل أن تصطدم الأدوات المفاهيمية للأكاديميين بصعوبات كبيرة في محاولتها بلوغ فهم مستساغ لخفايا هذه الظاهرة الاحتجاجية القائمة على مركزية الفرد. الكثيرون أصبحوا يرونها انعكاساً ثقافياً لتحولات هيكلية ظلت تتبلورداخل المجتمع الغربي المعولم لأكثر من نصف قرن. قالوا إنَّ هيمنة المطلبيات الثقافية المتشظية على المزاج الاحتجاجي  وقدرتها على  تهميش المطلبيات الاقتصادية التقليدية ذات الطابع الطبقي إنما تعكس تراجعاً كبيراً أصاب البنى والمؤسسات الأولية الحارسة للهويات الجماعية في هذه المجتمعات، كالعائلة، والكنيسة، والأعراف والأذواق الطبقية. فالوصف السريع للعولمة على أنها تيار جارف للمنظومات الاقتصادية الكبرى، كالأسواق المالية العالمية وأنظمة التبادل التجاري بين الشركات الكبرى، ونظم الاتصالات التقليدية، هو وصف ناقص لأنه غالباً ما يهمل تأثيراتها غير المباشرة على الفضاءات الخاصة بالأفراد و عوالمهم النفسية و تمثلاتهم المختلفة لأدوارهم الاجتماعية. قال هؤلاء إنَّ العولمة أضعفت دور المؤسسات التقليدية التي تؤمِّن التنشئة الاجتماعية للأفراد، وكانت النتيجة أن تمكن هؤلاء من مساحات حرة لصياغة شخصياتهم الفردية ولتنمية انتماءاتهم الجماعية على مسافة من معيارياتها. هكذا صارت هذه المجتمعات تشهد ظهورأنماط جديدة من الفردانية في الأوساط الشبابية خاصة، تميل إلى تنسيب كل مطلق، وإلى إخضاع  كل مقدس لسلطة العقل الناقد، بل وأضحت السِّيَر الذاتية للأفراد مرجعاً هاماً للحياة اليومية.

هناك أيضاً ساهمت إنتاجات العلوم الإنسانية والإبداعات الثقافية الراصدة لتحولات تلك المجتمعات في إحداث تحول نظري عميق في المعنى العلم-اجتماعي المتعارف عليه لمفهوم “التهميش الاجتماعي” كاد يذهب بمحتواه الطبقي/الاقتصادي الذي ظل لقرابة قرنين من الزمان يشكل مجالاً مهمَّاً لعمل الاقتصاديين وعلماء الاجتماع. لم يعد المعنى الجديد لمفهوم “التهميش” يشير بالدرجة الأولى إلى أوضاع الطبقات المعوزة اقتصاديا كالطبقة العاملة، أو كفقراء “ما دون الطبقة”، بقدرما أصبح يرمز إلى المسافات التي تفصل الأقليات الثقافية الإثنية والعنصرية والجنسية و الجندرية وغيرها عن فضاءات صنع الحظوظ المادية و الرمزية في المجتمع. أصبح الاعتقاد السائد أن المعياريات التقليدية قد أضرت بهذه الأقليات الثقافية وفرضت عليها درجات عالية من الأفول الاجتماعي سبَّب لها إقصاء حاداً عن ممارسة حقوقها المدنية التي لو تمكنت من ممارستها فعلياً لكانت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية و السياسية أفضل بكثير مما هي عليه في الوقت الحاضر. هكذا ساهمت العلوم الإنسانية في تهميش الطبقة وفي تثمين الهويات الثقافية في مجتمعات الغرب “ما بعد المحدثة”.  

على صعيد آخر ألحقت التحولات الاقتصادية العميقة التي عرفتها تلك المجتمعات درجات متفاوتة من الهشاشة و التداخل بهرمياتها الطبقية التقليدية مما تعذرمعه إنتاج هذه المجتمعات لهويات طبقية جديدة واضحة المعالم أو سهلة التعريف كتلك التي أنتجتها زمن “حداثتها الأولى” خلال القرن التاسع عشر و حتى منتصف العشرين. تميزت “الحداثة الثانية” عن سابقتها بغلبة المهن الخدمية على القوى المنتجة، حيث لم تعد “الياقات الزرقاء” هي القوة العاملة الأهم في الوحدات الإنتاجية الجديدة التي أصبحت تقوم أساساً على موظفي “الياقات البيضاء” كقوة خدمية متخصصة في إنتاج المعلومات و السلع الرمزية أو ما أسماه Daniel Bell ب “المعرفة المشفرة”.1 Bell, Daniel (1973) “The Coming of The Post-Industrial Society: A Venture in Social Forecasting. New York Basic Books أفرزت هذه الوظائف الخدمية الجديدة أخلاق عمل جديدة تثمن قيم الإبداع الفردي و روح المبادرة الفردية، وهي غير قيم الانضباط الآلي المنمَّطة التي كانت تسيِّر اقتصاديات المجتمعات الصناعية زمن “الحداثة الأولى”.  

أنتجت هذا التحولات الهيكلية الكبرى تراتبيات جديدة في قيمة الرساميل المختلفة التي يمتلكها الأفراد. فقد أصبحت هذه المجتمعات الجديدة أكثر تثميناً للرأسمال المعرفي وللخبرة المعلوماتية وأقل تثميناً للقوة العضلية وللعمل اليدوي، مما سبب بدوره تراجعاً هاماً في النفوذ الاجتماعي والسياسي لمالكي “أدوات الإنتاج الصناعي” التقليدية، قابله في الآن ذاته نمو خارق في نفوذ الأفراد من ذوي القدرة على إنتاج المعرفة وإتقان إدارة الأعمال. فضلاً عن ذلك، عصفت هشاشة السيَرالمهنية للأفراد في مجتمع الخدمات غير المستقر والدائم الحركة بثقافة الولاء للمؤسسات الشغلية الكبرى، وأصبح الموظفون و العمال يغيرون  وظائفهم بوتيرة أعلى من ذي قبل، بل و كثر ترحالهم بين المدن و حتى بين البلدان لتحقيق آمالهم الفردية في النجاح المهني. سببت هذه الحركية ارتفاعاً غير مسبوق في الوعي الفرداني بين المواطنين وتراجعاً في فاعلية ووضوح خلفياتهم الطبقية التي ظلت إلى حدود منتصف القرن العشرين تشكل الأرضية الأساسية لنمو النقابات والأحزاب العمالية، ومسوغاً لفاعلية بريقها الإيديولوجي. 

على المستوى المعرفي، انعكست تلك التحولات و تداعياتها على تصورات علماء الاجتماع للفعل الفردي في مجتمعات لا يستقر حراكها على حال. ضعفت ثقة معظمهم في المفاهيم البنيوية القديمة أوفي ما أسماه Lyotard  “السرديات الكبرى” ذات الطابع البنيوي الحاد للفعل الفردي التي صاحبت نمو علم الاجتماع الأوروبي منذ ولادته . قالوا لم تعد هناك نظريات ثابتة تسع ما أصبحت تفرزه هذه المجتمعات المعولمة من ظواهر اجتماعية، وإنّ معظم النظريات العلم-الاجتماعية  التي تثمن الفعل الطبقي التي كانت رائجة في المجتمعات الأوروبية حتى منتصف القرن العشرين، إنما كانت إفرازاً فكرياً لسياقات اجتماعية وثقافية واقتصادية بخاصة في تلك المرحلة الزمنية. نتيجة لذلك، أصبحت معظم النظريات المستحدثة تؤكِّد دور “الفعل الفردي” في بناء الهويات الاجتماعية والثقافية، سواء كانت تلك الهويات فردية أم جماعية. 

في تلك السياقات الجديدة، رفض الحداثيون الجدد القبول بمفهوم “الهويات الثابتة” للفاعلين الاجتماعيين، سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات أم طبقات أو حتى أنظمة طبقية برمتها. لا شيء في المجتمعات يستقر على حاله والكل يتغيرفي مجتمعات معولمة أصبحت فيها مسالك بناء السيَرالذاتية وحتى طرق ووسائل مراكمة الذاكرة الجماعية متعددة ومتنوعة، وأكثر خضوعاً من ذي قبل للفعل الإرادي الفردي المتغير هو أيضاً على الدوام. في المقابل قالوا إن الطبقات الاجتماعية الكبرى التي قامت عليها المجتمعات الأوروبية في طورها الصناعي قد أصبحت الآن متشظية إلى أصناف اجتماعية كثيرة، فوهن فعلها السياسي والنقابي وتراجعت كقاعدة لبناء الهويات الجماعية. ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حتى وصل بهم الأمر إلى القول بموت الطبقة تماماً من حيث كونها هوية سياسية في مجتمعات متعددة الثقافات قد توفرت فيها اختيارات هووية ثقافية كثيرة أكثر قبولاً للتسييس من الهويات الطبقية، كتلك الهويات القائمة على العِرق والعنصر والجندرية والعمر والاختيار الجنسي. 

 في هذه السياقات، يرى  Zygmunt Baumanأن المجتمعات الأوروبية المعولمة أصبحت تعيش “أزمنة سائلة” فقدت فيها البنى الاجتماعية و المؤسسات الكبرى قدرتها على حفظ كياناتها لمدد طويلة، كما تحللت فيها وظائف الهرميات التقليدية التي كانت في الماضي القريب تنتج النظم الاجتماعية وتسندها بمنظومات معاييرية واضحة تؤهلها لأن تكون أرضية خصبة لحفظ ذاكرة المجتمعات ولإنتاج الهويات الجماعية بأنواعها.  أصبحت هذه المجتمعات تنتج “إنساناً جديداً” وصفه Bauman ب”إنسان شبكات التواصل الاجتماعي” دائم البحث عن هويات فردية جديدة تحفظ له كياناً فردياً يقيه هيمنة الكيانات الجماعية الكبرى ويحميه من خطر معيارياتها السائدة التي أصبح يشعر أنها تضيق عليه حياته. إلَّا أنَّ   Bauman قد ظل حتى وفاته منذ  زمن قريب يعتقد بأن هذا “الإنسان الجديد” برغم استحداثه وسائل جديدة في الاتصال والتفاعل مع الآخرين وبرغم بعثه مجموعات ولاء مستحدثة أيضاً لم تشهدها المجتمعات من قبل، فإنه ظل مع ذلك ظل يعاني الوحدة والقلق، إذ إن اجتماعيته المعولمة تلك لم توصله إلى الأمان الذي كان ينشده، بل على العكس أحدثت هذه الوسائل داخله مزيداً من الإحساس بالهشاشة النفسية والعاطفية، وفاقمت حصره في بوتقة شبكات من الأفراد والمجموعات لا يختلفون عنه كثيراً من حيث الاهتمامات والمُثل والمشاعر، فضمرت نتيجة لذلك مهاراته الاجتماعية وضحلت قدراته على التفكير الجدلي وعلى التفاعل المباشر مع من يخالفه الرأي2Bauman, Zygmunt (2007) “Liquid Times”. Polity Press, UK.

أما عالم الاجتماع الألماني Ulrich Beck فهو يعتقد أن المجتمعات الغربية الرأسمالية قد شهدت منذ نهاية القرن العشرين تحولات عميقة في بناها الطبقية وفي مؤسساتها الفاعلة حولتها من طور “حداثة أولى”، قاعدتها مركزية المجتمع الصناعي ذي الحراك  الاجتماعي والسياسي القائم بالدرجة الأولى على منطق و آليات توزيع الثروة بين الطبقات الاجتماعية بما يؤمن للمجتمع درجة كافية من الاستقرار الوظيفي، إلى طور “حداثة ثانية”، عمادها الفرد وقاعدتها ما أسماه ب”مجتمع الخطر” ذي الحراك الاجتماعي القائم على منطق تأمين آليات الاستقرار الاجتماعي للأفراد ومدّهم باختيارات سياسية واجتماعية تساعدهم على مجابهة المضاعفات الجانبية كالشعور بقلة الاستقرار والقلق التي أنتجها المجتمع الصناعي في سعيه المحموم للسيطرة على الطبيعة ب”عقل أداتي” موغل في النفعية. بحسب  Beck أنتج  منطق المجتمع الصناعي حركات اجتماعية وسياسية ذات قاعدة طبقية واضحة، وأنتج تدافع تلك الحركات فيما بينها تعريفات هووية طبقية قوية لشرائحه الاجتماعية. أما في”الحداثة  الثانية”، فقد شهدت تلك التعريفات الطبقية تراجعاً حاداً في وعي الناس لأن أنماط التضامن بين الأفراد والمجموعات أصبح معظمها قائماً على قاعدة بناء فضاءات الأمان والتوقّي من مخاطر نقص الاستقرار، مما جعل هاجس حفظ الذات الفردية طاغياً على اهتمامات الناس و دفعهم إلى إيلاء القضايا ذات الأبعاد الثقافية المتصلة بالحريات الفردية اهتماماً خاصاً.3 Beck, Ulrich (1992): “From Industrial Society to Risk Society: Questions of Survival, Social Structure, And Ecological Enlightenment. In “Theory, Culture, and Society. 9 (1): 97-103 Beck, Ulrich: (1992): “The Risk Society”. London, SAGE  

الظاهرة في بلداننا: من فردانية “أزمنتنا الرتيبة” إلى فردانية “أزمنتنا الفوضوية”

  1. فردانيَّة “أزمنتنا الرَّتيبة”:

اهتم علماء الاجتماع الدارسون لسياقات التنشئة الاجتماعية بالنظر في ما أسموه صراع  الإرادات الفردية  مع الإكراهات البنيوية للمجتمعات Agency-Structure Conflict  فأكدوا فاعلية القوة الإرادية للأفراد في صنع مسارات إنتاج وإعادة إنتاج ذواتهم وتوجيه الأحداث في محيطاتهم الاجتماعية بما يخدم سيرهم الذاتية. غيرأنهم أكدوا أيضاً وبالقوة ذاتها فكرة أن لا مجتمع  يترك بُناه و مؤسساته لهوى أفراده وأمزجتهم. فكل مجتمع يسهرعلى صيانة ذاكرته الجماعية و يعمل على بسط سلطانها على أجياله الجديدة وعلى مؤسساته المستحدثة، وبمرور الزمن تتحول تلك الأجيال الجديدة وتلك المؤسسات المستحدثة إلى سلطة قاهرة للأجيال و للمؤسسات التي تليها، كما تتحول أنظمتها المعيارية أيضاً الى سلطة حادة وقاهرة للحريات الفردية.  

في أزمنتنا الرتيبة تقل في مجتمعاتنا الأحداث الكبرى ذات الطابع الاجتماعي العميق، لذلك ينشأ الأفراد عندنا داخل حدود ما تفرضه عليهم المؤسسات والبنى الاجتماعية السائدة في مجتمعاتهم كالعائلة والطبقة والمدرسة والوظيفة من قيم ومعايير. ولأن هذه المجتمعات تصبح فضاءات راسخة من  القواعد المحمية بقوة الذاكرة الجماعية، ولأن أجيالها الجديدة نادراً ما تبعث فيها ثقافات بديلة كبرى، فإن الحياة اليومية للناس فيها تصبح في جزئها الأكبر سفراً دائماً داخل التقاليد المحكومة بدفء الماضي، إذ يمتد حب التقليد هذا الى الأجيال الجديدة في سكون العادة، و ينشأ الأفراد و المجموعات على تقديس كل ما يصلهم عن أسلافهم  من تراث، ويتربُّون على أهمية النسج على منوالهم تفكيراً وسلوكاً.  

وفي “أزمنتنا الرتيبة” غالباً ما تتفشى في شوارعنا فردانيات سلبية، فلا ترى إلا أفراداً مشتَّتي الاهتمامات، يستنفد الواقع اليومي قواهم العقلية و العضلية برتابة مهامِّه الصغيرة المحدودة في الزمان وفي المكان (مشاغل عائلية يومية، إعالة والدة مريضة، العناية بطفل معاق، مهنة صغيرة هامشية تذكره يومياً بدونيته في مجتمعه…). ولأن قوى الأفراد المعرفية المحدودة غالباً ما لا تتيح لهم فهم آليات تأثيرذلك الواقع في أوضاعهم البائسة، فإن ذلك الواقع غالباً ما يتحول هو أيضاً إلى عامل مخيف لهم، وخوفهم منه يفاقم إنطوائيتهم ويزيد من تهميشهم، بل وينشِّئ فيهم عزوفاً شديداً عن التنظم الجماعي لتغيير أحوالهم. 

 وفي “أزمنتنا الرتيبة” غالباً ما تطغى على مؤسسات صنع الفكر عندنا مقولات “علم-اجتماع النظام” social system sociology بمعناه البارسوني المحافظ الذي يثمن المثقف بقدر انخراطه في “عقلية القطيع” لا بخصوصياته الفردية أو بمواصفاته التي تميزه عن غيره. في هذه الحالة تكون النتيجة أن يغيب العقل النقدي بين المثقفين، فتشتد سلطة الأمرالواقع على الناس، ويوغل المجتمع في إعادة إنتاج ما يعرّفه علماء الاجتماع ب”الهويات العمودية” التي يكتسبها الأفراد من أسلافهم ويحافظون عليها ويعملون جاهدين على توريثها لأبنائهم حرصاً على ضمان تواصل الذاكرة الجماعية لمجتمعاتهم.    

  1. فردانيَّة “أزمنتنا الفوضويَّة”

 أما في “أزمنتنا الفوضوية” إذ تهتز النظم البنيوية والثقافية القديمة يضعف تأثيرها على الأفراد والجماعات دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء واستقرار نظم حديثة بديلة، تمر مجتمعاتنا بتحولات معيارية عميقة تهتز فيها سلطة العادة المتمكنة، وينخرم فيها نظام المعاييرالسائدة، وتحدث فيها القطائع الكبرى في فضاءات الذاكرة الجماعية. حينئذ، تصاب مؤسسات حفظ الهوية بأقدار من التشظي الهيكلي وبدرجات من الشلل الوظيفي بفقدانها جزءاً مهماً من قدراتها على توجيه حياة الأفراد. عندئذ ينفتح الأفراد على وقع تقليعات ثقافية هجينة يتداخل فيها المحلي مع العالمي في تناغم و تنافر مستمرين، فتظهر آثارها سريعاً في كل مظاهر حياتهم. يتحول الفرد إلى “عملاق خطير” بتعبير Erving Goffman  يرى في الإكراهات البنيوية لمجتمعه خنقا لذاته، كما يرى في التمرد عليها فرصاً لإعادة صياغة شخصيته. وهكذا يتراجع في تفكيره تأثير “الهويات العمودية” المحلية التي ورثها عن أسلافه و يحاول أن يبني لنفسه بإزائها “هويات أفقية” ذات آفاق كونية، يتصور أنها تعكس ميوله الجديدة، أو على الأقل أنها ستمكنه –حتى وإن كان هو نفسه عاجزاً عن فهمها –من صنع معان جديدة لحياته.  

في “أزمنتنا الفوضوية” قد يتمكن شبابنا من تخليص أنفسهم من ربقة سلطة العادة التي كانوا يظنون –سواء كانوا محقين أم مخطئين –أنها كانت السبب الأساسي في الحد من طموحاتهم وفي تضاعف إحباطاتهم، ويحمِّلونها المسؤولية الكاملة عن تخلف مجتمعاتهم عن ركب الحضارة. قد يؤدي تفكيرهم ذاك إلى نجاح بعضهم في تأمين مواقع امتياز معرفي لهم خارج فضاءاتها يتصورونها كافية لفهم آليات عمل مجتمعاتهم وتغيير حركتها و صنع تاريخ جديد لشعوبهم. إلَّا أنَّ هؤلاء غالباً ما يسقطون في وهم كبير إذ يعتقدون أن المثقف الهجين يمكنه صنع الأحداث التاريخية الكبرى بالقفزعلى شرعية مجتمعه القديم وبالقطع مع ذاكرته الضاربة في الماضي. عاجلاً أم آجلاً سيصل هؤلاء الى القناعة الأساسية التالية: نعم، يمكن للأفراد أن يصنعوا التاريخ في بلدانهم، إلا أنَّهم لا يصنعونه كما يشتهون أو في سياقات تاريخية من محض أوهامهم. لا يُصنع التاريخ إلا بالتصالح مع السياقات التاريخية الموروثة عن الماضي، بل وعلى قاعدة التعامل الموضوعي مع تلك السياقات. أما القفز على قوى المجتمع القديم والقطع مع ذاكرته الجماعية و الضرب بكل ذلك عرض الحائط بحجة عدم مواءمته لمنطق العالم المعولم الذي أعادت الحداثة الغربية صياغته يؤدي بهؤلاء الشباب إلى الفشل حتماً، والفشل يؤدي بهم الى مفترق طريقين: إما طريق الإيغال في الحلم والتجريد وتبنِّي شعارات أنتجتها الصيرورات التاريخية لمجتمعات بلدان الغرب، كالدعوة إلى شرعنة الاختيارات الجندرية الشخصية أو التطبيع مع المثلية أو تقنين تعاطي الحشيش أو غير ذلك من الشعارات المماثلة التي لم يفرزها النمو التاريخي لمجتمعاتهم، و إما طريق السقوط في الخطاب الشعبوي الذي يتغذى على المظلومية وعلى عقلية الضحية وصنع الأعداء كمسوغات لتبرير وجوده، فيأججون عواطف مواطنيهم و يلهبون حماسهم وراء أحلام وردية سرعان ما تنقلب إلى كوابيس. هكذا نشأت الشعبويات بأنواعها في بعض مجتمعاتنا و هكذا نجم خطرها.       

 خاتمة:

بين فردانيَّتهم وفردانيَّتنا بون شاسع. فردانيتهم كانت تعبيراً ثقافية عن تحولات هيكلية عرفتها مجتمعاتهم بمرورها من “حداثة أولى” إلى “حداثة ثانية”، بينما فردانيتنا كانت نتاج مرور من “زمن رتيب” إلى “زمن فوضوي” أضعنا فيه تكافلية المجتمع القديم ودفء ذاكرته الجماعية بينما عجزنا عن العيش بعقلانية المجتمعات المعاصرة. في هذا التأرجح فقدنا التوازن وانفصم  وعينا عن حاجتنا.  

المراجع:

1. Bell, Daniel (1973) “The Coming of The Post-Industrial Society: A Venture in Social Forecasting. New York Basic Books

2. Bauman, Zygmunt (2007) “Liquid Times”. Polity Press, UK.

3. Beck, Ulrich (1992): “From Industrial Society to Risk Society: Questions of Survival, Social Structure, And Ecological Enlightenment. In “Theory, Culture, and Society. 9 (1): 97-103

Beck, Ulrich: (1992): “The Risk Society”. London, SAGE

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

1 Comment

Leave a Reply