شعريّة الانتصار عند عنترة العبسي

سماح حمدي

عنترة، إذا لم أُروِّ

لقد حرصَ الشّاعر على التّعبير عن خصاله ومآثره، فحشد لذلك حملة من الصّور الفنّية ومن الأدوات التي استوحاها من بيئته والتي رآها كفيلة بمواساة نفسه:

أوّلا: الصّور الفنّية

أ– التشبيهات:

اِستعمل الشّاعر التّشبيه البليغ في لحظة تغنّيه بـ”الأنا”، فقال في البيتين: “أنا الموت” فقد جعل نفسه صنوًا للموت، واٍستعمل المشبّه به معرّفا بـ “ال” التي تدلّ على الاستغراق، فيتحوّل عنترة في ذهن سامعه إلى كلّ ما يعنيه الموتُ للإنسان من رهبة وخوفة وللجاهلي خصوصًا إذ طالما مثّل بالنّسبة إليه لغزاً غامضًا يتربّص به ويرعبه ويؤرّقه في ذات الوقت ذلك أنّه يدرك أنّ الموت يستهدفه وأنّه سيطاله لا محالة وأنّه سيحيله إلى العدم وكذلك نسجَ حوله الأساطير ونظم فيه شعراً كثيرا وقال فيه حِكماً لخّصت تجربته مع هذا الحدث الجَلَل. فاللّفظ هنا واحد “الموت” ولكنّه يتشظّى إلى معانٍ عديدة تختلف بالاختلاف تمثّل المتلقّي لها وفق التجربة التي عاشها معه فـ “الألفاظ الجزلة تتخيّل في السّمع كأشخاصٍ عليها مهابةٌ ووقارٌ، والألفاظ الرّقيقة تُتَخيّل كأشخاصٍ ذوي دماثة ولين وأخلاق ولطف مزاج.(1)، وقد أردف الشّاعر التشبيه البليغ الوارد في البيت الرّابع بآخرٍ مِنْ نفْس النّوع في البيت الموالي “أنا الأسد” وعمد أيضا إلى جعل المشبه له معرّفا وقد اِختار لفظ “الأسد” بما يوحي به من معان للقوّة والشّراسة فـ “اللّفظ يستمدّ قوّته من هذه الخاصّية الغريبة التي يمتلكها في التفجّر في شكل صورٍ في ذهن السّامع والقارئ(2). وقد أطلقت العرب على الأسد 300 كلمة وهذا ما يترجم كثافة حضور هذا الحيوان في ذهن العربي القديم خصوصاً وهو من الحيوانات المعروفة بشراستها وقوّتها البدنيّة وقدرتها على الفتك بالأرواح.

وقد “غلا نقّاد العربيّة في الإعجاب المتواتر بمكانة التشبيه، فقد رأوا فيه جانباً من أشرف كلام العرب وفيه تكون الفطنة وتكمن البراعة، ولذا جعلوه أبين دليل على الشاعريّة(3).

ويرسّخ التشبيه البليغ هذه الصّورة المقترنة بالسّطوة والقوّة والوحشيّة في ذهن المتلقّي وتصبح صورة الوحش هي صورة عنترة نفسُه –ذاك المنكسرُ الذي حطّت قبيلته من شأنه فينتصر لنفسه ويرتقي بها من الغراب –وهو المنتمي لأغربة العرب– إلى الأسد بمدلولاته المتنوّعة، ويضيف للأسد صفة “الحامي” ويردفها بلفظة “حمى” ممّا يحدث إيقاعا يعمّق المعنى الذي أراد الشّاعر إيصاله لذهن المتلقّي فهو أسَدٌ لا في الاعتداء على الآخرين وظلمهم وإنّما هو كذلك إذا ما تعلّق الأمرُ بحماية اللاّجئين له المحتمين به من غدر الصحراء وويلات الحروب. وإنّ لهذا الإيقاع دوراً في ترسيخ المعنى وهو يعدّ لونا من ألوان شعريّة القصيدة فقد أورد هامون فيليب أنّ فونتانيي Fontanier يعتبر الدّقة في انتقاء اللّفظ مع طريقة النّظم والتّركيب واِنتقاء الأصوات والإيقاع ومواقع الصّمت والهبوط وغيرها لموافقة المعنى والفكرة والشّعور، من أنسب الطّرق لمخاطبة الأذن والقلب(4).

ب – الاستعارات:

حضرت الاستعارة المكنيّة في هذه القصيدة حضورا مكثّفا – 6 مرّات – “فاستهلّت بها القصيدة” إذا لمْ أُرَوِّ صارمي من دمي العدا” إذ يتحوّل السّيف شخصا ضمآن لكنّه إلى الدّم لا إلى الماء، ويظهر لنا بجلاء اِستيحاء الصّورة من البيئة الطبيعيّة التي يُعرف فيها العطش وتدرَكُ فيها قيمة الارتواء ’ و يحدّد الشّاعر مصدر الدم الذي يحقّق ارتواء صارمه وهو دم الأعداء ، ونلاحظ هنا إلحاح عنترة على بيان مواطن قوّتة، فهو أسدٌ في حماية المستجيرين به، وهو شديدٌ على الأعداء، حليم على سيفه لا يرتضي له الصّدى. ويحيلنا فعل “أروّي” الذي اِستعمله إلى أهمّية الارتواء في تلك البيئة القاحلة وإلى مكانة الماء عند العرب قديماً، كما يكشف عن كون الدّم صنو الماء فكلاهما عماد الحياة وشريانُها. ونحن بهذا التحليل نستذكر ما قاله هامون بخصوص التشابيه والاستعارات فهي عنده “قطع أقصى ومجهريّ لحقل دلاليّ وهي في الآن ذاته عنصرٌ في النظام الوصفي للمرجع الموصوف ومولّد لإستراتيجية تأويليّة لدى القارئ وتتمثّل في بحث عموديّ عن الدّلالة(5)، وفعلاً، فإنّ العبارة “تتفجّر” في ذهن متلقٍّ يدرك معاني العطش ودلالات الارتواء، ويفهم نهَم العطشان على الماء ولهفته عليه، ويتكرّر ذكر الموت والدّم في موضع آخر من القصيدة، في البيت السّادس منها:

                            إذا لقيتُ الموتَ عمّمتُ رأسَه              بسَيْفٍ على شرب الدّمَا يَتَجَوْهَرُ

فالموت الذي يهابه كلّ البشر، يصغر أمام عنترة ويجعله عدوّا سيهزمه سيفه الضمآن لشرب الدّماء، الشّربُ هنا يحيل إلى الماء رمزاً للحياة  وإلى الخمرة رَمْزًا للّذة والفخر، فالدّم بهذا المعنى هو عنوان الحياة وصنوَ البهجة، عند شاعرٍ حاولت الحياة إذْلاَلَهُ فهزمها بهذه الرّوح الانتصاريّة، ويتصاعد النّفس الفخريّ في القصيدة في البيت السّابع ويستعمل الشّاعر نفس الأسلوب –الاستعارة المكنيّة– “وفعلي على الأنساب يزهو ويفخر”، ليتغنّى بأفعاله التي فاقت الأنسابَ جدارةً بالفخر، و نحن في ذروة الفخر والزّهو والاعتداد بالنّفس والتغنّي بشمائلها يتراءى لنا طيف الألم الذي يشعُرُ به عنترة، وهو ما عبّرنا عنه قبل هذا المقام بـ “محنة عنترة” فالفعلُ هُو ما لَجأ الشّاعر إليه لتجاوز عقدة النّسب، وهكذا تتحوّل التجربة الإنسانيّة العميقة إلى تجربة شعريّة خصبة، وقد جَعَل “الفعل” مطلقاً، لم يحدّد مجاله وبذلك يستغرق كلّ ما من شأنه أن يزين الشّاعر من أفعال سلميّة وحربيّة تنخرط في المنظومة القيميّة التي تشكّل مفهوم العِرض عند العرب كما أجمله بشر فارس، ومفهوم الفتوّة الذي ساد في العصر الجاهلي وهو الذي يَشْملُ خصالاً حربيّة وأخرى سلميّة ترتقي بصاحبها إذا اِجتمعتْ إلى مرتبة “الفتى” التي يمجّدها العرب ويجلّها.

وختم القصيدة بالاستعارة المكنيّة “سَلٍ المشرفيّ في يدي  يخبّرك عني أنني أنا عنتر.” يبلغ فيها التغنّي بالذات أوجهُ، إذ يطالب الشاعر بسؤال السّيف عنه، فهو الذي يشهد له بالبطولة والمآثر في ظلّ نكران أهله لذلك، وقد اِكتفى بذكر نسب السّيف “الهندواني المشرفي” وهو ما تسمّيه بسمة الشاوش “الصّفة الإسم(6) دلالة على شرف ذاك النّسب وعلى صحّة الشّهادة التي سيقدّمها الشاعر ولم يجد الهنداوني صفة أو صفات تليق به أكثر من اسمه “أنا عنتر” فاسم الشّاعر يختزل جميع الصّفات التي يمكن أن يمدح بها ويستغرق كلّ ما يمكن أن يحيل إلى معاني القوّة والبأس وما  تفجّره في ذهنِ المتلقّي من رهبةٍ من ملاقاةِ هذا الفتى.

ثانياً: التّعبير

1– الألفاظ والتّراكيب:

رغم اِشتهار القصائد الجاهليّة عموما بغرابة اللّفظ وحوشيّته، فإنّ هذه القصيدة قد نُظِمت في لغة سهلة بسيطة تتماشى مع الموضوع الذي يتطلّب المباشرة والوضوح. وقد جاء أسلوب الشّرط ليدعم كلامه بالحجّة والبرهان، فكانت الألفاظ جزلة قويّة مسبوكة في تراكيب متينة لا ركاكة فيها ولا ضعف.

-أسلوب الشّرط: تكرّر أسلوب الشّرط أربع مرّات في القصيدة أي بنسبة 36،36وباستعمال نفس الأداة «إذا»، وهو ما يكثف إيقاع النّص ويساهم في ترسيخ المعنى في ذهن السّامع وما ينسجم مع النّفس الفخري الذي يسِمُ النّصّ. وقد تضمّنت تلك التراكيبُ الشرطيّة التلازميّة مبدأ عنترة في الحروب وكشفت عن مكانته في نفوس النّاس وأذهانهم. فهو مستعدّ دومًا لخوض غمار الوغى، وإن خاضها فهو منتصر لا محالةَ.

2– المحسّنات البديعيّة:

– الطّباق:

الطّباق كما هو معروف هو “الجمع بين معنييْن متضادّين، أو هو الجمعُ بين الشيء وضدّه، مثل الجمع بين البياض والسّواد، واللّيل والنّهار والحرّ والبرد(7)، والطّباق فنّ كائن عند العرب، استخدم لديهم لتحسين الكلام، لذلك أطلق عليه فنّ البديع إذ يقع تأثيره مباشرة على الإنسان ويحرّك وجدانه، فقد أحسن الشّاعر اِستخدامه. فاستعمل في البيت السّابع طباق الإيجاب “سوادي بياضُ” فقابل في الظّاهر بين مفردتين لكنّه في الواقع قابل بين منظومتين يُحيل إليهما كلّ لفظ وقد سبق أن أشرنا إلى مدلولات اللّونين المتطابقين. فسواد الشّاعر الظّاهر والذي حطّ من شأنه إنّما هو الحقيقة نقطة تحوّل صنعت ملحمة الشّاعر البطوليّة ودفعته إلى اكتساب حميد الصّفات وإلى التباهي بالأسود والالتحاق بركب الأبطال.

-الأساليب الخبريّة والإنشائيّة:

طغى على القصيدة الأسلوب الخبريُّ الذي ينسجم مع مقام الفخر، فاستثمره عنترة لسرد مآثره ولبيان النّهج الذي سلكَه في الحياة لردّ الاعتبار لنفسه المكلومة التي آذاها ظلم ذويها. وحضرت الأساليب الإنشائيّة بنسبة أقلّ (3 مرّات) فكانت رغم قلّتها صرخةً  يطلقها الشّاعر لتحدّي من أنكروا نسبَهُ وقلّلوا من شأنه وبَخَسُوه حقه في الاعتراف به فارسًا من فرسان بني عبس وحُرّا من أحرارها.

خاتمة:       

لقد حاولنا في هذا العمل أن نتتبّع مظاهر شعريّة الانتصار عند عنترة العبسي، وقد اِبتعدنا عن المعلّقة لما حظيت به من دراسات عديدة تناولت  مظاهر الإبداع فيها، واِتّجهنا إلى هذه الرّائية التي كشفت عن تضمّنها لما اِتّفق النقّاد حول ما يصنع شعريّة النّص وأدبيّته. ولم يكن من المُمْكن التركيزُ على تجلّيات الانتصار دون التّذكير بمحنة الشّاعر التي كانت القادح لخلق عنترة شاعرًا وفارسًا، فكانت تلك المحنة منحةً وهبها له قدرُهُ لتجعله من أبطال السّيَر والحكايات ولتقرّبه من الشّخصيّات الأسطوريّة. وإنّ رصدنا لمظاهر الشّعرية لم يكن ليكون ممكناً دون العودة إلى مفهومها وإلى آراء النّقاد فيها. ومهما يكن من أمرٍ، فإنّنا نرى أنّ لكلّ نصّ جماليّته وتفرّده عن غيره من النّصوص ممّا يجعل أمر حصر دراسة الشّعريّة في نقاط دون غيرها أمرا صعبًا وهاضمًا لحقّ النّص في الدّراسة. فالنّص يتحدّى قارئه في كلّ مرّة ويباغتُه بمواطن جمال جديدة عليه قد تكون في بلاغة النّص أو حسن صياغته.

هوامش

1- اٍبن الأثير (ضياء الدّين)، المثل السّائر، تحقيق الحوقي وطبانة، القاهرة 1959 – 1962، ج 1 ، ص 252.

2- Tison), Poétique de paysage, essai sur le genre descriptif, Librairie A.G. Nizet. -chelineBraun (MiParis 1980, p 69.

3- مصطفى ناصف، الصّورة الأدبيّة ، دار الأندلس، بيروت، د.ت، ص 46.

4- Antiquité à Roland Barthes, une anthologie, Macula ’Hamon Philippe, la Description littéraire de l Littérature, Parie 1991, p 31.

5- Du analyse du Descriptif Hachette, Paris 1981, repris dans «’Hamon Philippe, introduction à l Descriptif », Hachette Supérieur, Paris 1993.

6- بسمة الشاوش، من فنيات الوصف في معلّقة اِمرئ القيس، حوليات الجامعة التونسية عدد 40، 1996، صص 195-232.

7- السّيوطي، (جلال الدّين) ، عقود الجمان في المعاني والبيان، ط 2 ، القاهرة، ج 2، ص 179.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply