قراءة في أعمال الفنان البروفيسور إبراهيم البكري

أمل بوتر

إبراهيم البكري بروفيسور عماني متقاعد من أصل زنجباري. درس في عدة جامعات أفريقية وفي امريكا. كان رئيسا لقسم التربية الفنية في جامعة سلطان قابوس في مسقط. نتوق لرؤية أعماله الفنية برمتها.

تحتلّ الفنون مساحة واسعة من اهتمام الإنسان بشكل عام، وقد تأخذ صيغًا وأساليبَ مختلفة تبعًا للحضارة السائدة، وأغلب ما حفظه لنا التاريخ من آثار ولقى ورسوم بانورامية جدارية أو منحوتات وفخاريات يصنف ضمن الفنون التشكيلية. يمكن القول انّ للفنون التشكيلية بعدًا عميقًا في الوجدان الإنسانيّ تمتدّ جذوره لتصل إلى إنسان ما قبل التاريخ. 

لقد تعذّر علينا معرفة  الفنون الأخرى التي أنتجت في تلك العصور لعدم تطور الكتابة، إلا أنّ الكثير من الشواهد يشير إلى ممارسات تشبه الرقص, و لا بد ّأنّ هذا كان مصاحبًا بالنغمة أو الغناء، ورغم أن الشواهد تؤكّد وجود الرقص إلا أن وجود ما صاحبه محض استقراءات وتخمينات.

مما سبق يبدو لنا أنّ لا مفرّ للإنسان من ممارسة الفن التشكيلي، إذ لعله الأكثر ارتباطًا بأشكال التعبير الوجداني التي مارسها الإنسان ردحاً طويلاً من الزّمان وما زال، وقد تغلب التعبير بالشكل على الأساليب الأخرى واستحوذ الحسّ التشكيلي على الوسائل التعبيرية السائدة لحقب طويلة من تاريخ البشرية إلى أن ظهرت الكتابة والتدوين فتغيرت الموازين نوعًا ما، وأصبح للتعبير بالكلمة اليد العليا، وكثيراً ما كانت الكلمة تعويضًا عن الصورة المرئية إذ يتمّ رسمها بالحروف المنطوقة أو المكتوبة.  

 على مرّ العصور ارتبط النتاج التشكيلي بنوعين مختلفين من التعبير الفني: الأول كلاسيكي أكاديمي (وأقصد هنا مدرسي) والثاني شعبي حرفي، وكلا التعبيرين كان له دائمًا وقعٌ مهمٌ على الفئة التي تقدّره.

إلّا أنّ الفنانين  في كلّ من الفريقين أنتجوا فنًا مختلفًا بعض الشيء، وكانوا يعرفون بشكل واعٍ أو لا واعٍ أنّهم يستجيبون لمتطلبات مجتمعهم، وأن ما ينتجونه هو انعكاس لمشاعرهم وملكاتهم ووسائلهم التعبيرية. فضلًا عن ما تقدم، فإن أغلب نتاجهم هو مرآة لواقعهم  المشترك، فمن دون الحس بالموروث والتأثر به لن يستطيع الفنان الأكاديمي استلهام موضوعاته، ومن دون تقنية لن يستطيع الحرفي الشعبي تنفيذ موضوعاته.

رغم أن الواقع واحد ويشتركان فيه إلا أن كلّ فريق يعكس رؤيته بشكل يختلف عن الآخر، ومن دون موروث شعبي وماضٍ حضاري وتقنية أكاديمية لن يتبلور أو يتطور فن تشكيلي أكاديمي ليعكس لغة فنية تقليدية يتقبلها الجمهور. 

هذا الموروث يتباين في المجتمعات الإنسانية تباينًا واضحًا، فهناك المجتمعات التي تطورت فكريًا في حقب زمنية أقدم من غيرها وسبقت الكثير من الأمم في هذا المضمار، وخير أمثلة على ذلك حضارة وادي الرافدين والحضارة الفرعونية. صحيح أن الحضارة المدوّنة انبثقت في وادي الرافدين إلاّ أنّ هناك شواهد كثيرة تؤكد أنّ تلك المنطقة كانت مزدهرة فنيًا وفكريًا حتّى في عصور ما قبل التاريخ فقد كانت هناك حياة اجتماعية ذات وعي مرتبط بكثير من المنطق كما يدلّ على ذلك ما عُثر عليه في كهف شانيدار شمال العراق أو في حسونة.

وما التطور الذي أعقب تلك الحقبة إلا استمرار للّبنات الأولى والمتميزة التي وضعتها مجتمعات ما قبل التاريخ، والمدونات الّتي وصلتنا من العصور التي أعقبت عصر ما قبل التاريخ، أي بعد نشوء الكتابة، تتحدث عن زمان جميل ومثالي، فلا بدّ أن الإنسان قد تداول الحديث عن حياة سابقة واستمر اللاوعي يستعيدها ويصوّرها بحلّة جميلة، فالحنين إلى الماضي هو هو في وعي الإنسان.

إنّنا بالنظر إلى أي نتاج فني أكاديمي – حرفي نحاول أن نقرأ الزمان كواقع حاليّ وكموروث من الماضي، ونحاول إيجاد صلة تدلّ على أن في هذا الزمان أثراً من الماضي سواء كان موروثًا استلهاميًا فكريًا أو توارثًا تقنياً للخبرات.  

كما أنّ قراءة المكان وما أفرزته من معطيات ساعدت في إبراز الإنتاج الفني بشكل يختلف عن غيره وساهمت في بلورته في قوالب قادت إلى ديمومته أو اندثاره.

وبربط الزمان بالمكان واستقصاء البعد الفكري الذي احتواهما وساعد في خلق الأجواء التي تشجع الأعمال الفنية، يقودنا هذا إلى النظر بإمعان إلى نتاجات المجتمعات الإنسانية  وما احتوته من صيغ وممارسات وأساليب، وعندها من الممكن دراسة الأعمال الفنية بتفحص آخذين بالاعتبار كل المعطيات المؤثرة في صيرورة العمل الفني.

إنّ هناك الكثير من العوامل الفكرية المساعدة التي تلف مختلف الحضارات والتي ساهمت بشكل أو آخر في عملية النضوج الفني، ولكن هذه العوامل لم تظهر بشكل واع إلا بعد التطور الذي أدخلته العجلة أولًا ثم الكتابة وهذان الإنجازان لم يأتيا على شكل طفرة بل كانا حصيلة تراكم مستمر للخبرات والتجارب والممارسات الإنسانية الطويلة.

لقد تلى ذلك كنتيجة حتمية نمو اجتماعي واقتصادي وفكري-فلسفي كان لا بدّ أن يرافق تطور تلك المجتمعات الإنسانية، وبالتالي أصبح هذا النمو بمجمله هو المؤثر الفعّال في بلورة كافة النتاجات الفكرية والعكس بالعكس.      

والأمثلة على اختلاف التطور الفني كثيرة، فمثلًا في شبه القارة الهندية كان لتطور فن النحت “تقنية وموضوعات” مقوماته المختلفة من زمانية مكانية و فلسفية، وهذه المقومات خلقت فنّاً له خاصيته وتوحّده، إلا أنّ البعد التقني والفني ارتبط تمامًا أما بالمستوى الأكاديمي–المدرسي أو الحرفي الشعبي.

إنّ مِصر بفنونها القديمة خلقت فنًا تشكيليًا له مميزات مرتبطة بالمكان والبيئة التي فرضت نفسها على “المنتوج” وطوّع الإنتاج الفني وفقاً للزمان والمكان، فأخذ طابعًا يصوّر الفكر الفلسفي الذي شمل المنطقة، ولذا فإنّنا نجد فنًا أكاديميًا وفنًا شعبيًا حرفيًا وهذا المثال ينطبق على الحضارات كافة.

مرت الفنون التشكيلية بفترات ازدهار عبر أزمان شتى شملت أقطارًا مثل العراق وسوريا وفلسطين ومصر واليمن، وهذا الازدهار بقيت جذوره متأصلة في الوجدان لفترات زمنية طويلة، ولكن هذه الأقطار مرّت بإرهاصات مختلفة وتجارب فنية –اجتماعية متباينة، إلى أن ظهرت المحرّمات الدينية فضلًا عن توقف النمو الاقتصادي مما جعل الفنون التشكيلية تنحسر أو تبتعد عن الوجدان المبدع.

وفي بعض المراحل التاريخية اختفت الإبداعات التشكيلية التي كانت معروفة سابقًا وأخذت قوالب وصيغًا وأساليب جديدة تتماشى مع الفكر السائد في تلك الحقبة من الزمن.

 خير مثال على ذلك عصر الدّولة الإسلامية، إذ فيها تطور الفكر التجريدي وأصبحت الزخرفة قوامًا مهمًا، واحتلت العمارة الركن الأساس وأصبحت العنصر المسيطر على الجو الفني العام لعدة أسباب أغلبها مرتبط بالسلطة والحكم والهيبة والرهبة.

كما أن تطور العمارة وازاهُ تطور الفنون المصاحبة للنمو العمراني، منها زخرفة مواد مستخدمة في البناء مثل البلاط القاشاني والجص المحفور والطابوق المزخرف بالخط، وتلا ذلك صناعة الأثاث والسجاد والقماش وغيرها. 

 ورغم وجود الكثير من النتاجات التشكيلية منذ العهد الأموي الأول تحتوي الأشكال الآدمية والحيوانية إلاّ أن المنحى العام كان يحرّمها، أحيانًا بشدة و أحيانًا أخرى بالكثير من التساهل، وكثرت الاجتهادات واختلفت.

غير أن مناطق كثيرة من العالم الإسلامي وفي أوقات مختلفة حافظت على مستواها وقيمها الفنية، ولم تكترث بالمحرمات بشكل مطلق أغلب الأحيان إلا أنها راعتها بعض الشيء وقدمت بعض التنازلات، لذا نجد أن فن النحت اختفى تقريبًا إلا من بعض المنحوتات الحيوانية وخاصة في الأندلس. لكن هذا لا يعني عدم ازدهار فن الرسم والتصوير والمنمنمات وفي صناعة السجاد وتزويق الكتب.

إنّ فترة الازدهار الاقتصادي التي عاشها العالم الإسلامي شهدت كذلك انفتاحاً فكريّاً لا سيّما في القرن السادس الهجري كما بيّن رتشارد ايتنجهوزن في كتاب (التصوير العربي).

لم يقتصر اقتناء المخطوطات ذات الرسوم المختلفة “آدمية –حيوانية” على الحكام والخلفاء بل تعدى ذلك إلى التجار والطبقات المرفّهة من الناس، ومقامات الحريري التي رسمها يحيى الواسطي والتي يطلق عليها مدرسة بغداد تؤكد هذا، إذ فيها صوّر الواسطي الأشكال الآدمية بكل حرية وبكثير من التقنية الفنية المتطورة، وبأسلوب فني على درجة عالية من الحس الجمالي والواقعي، ولم يتوانَ الواسطي عن رسم الإنسان والمرأة بالذات وصوّرها كراعية وعاملة أو في حالة الوضع (المقامة العمانية)، و نفّذ ذلك بكثير من الواقعية وبفهم واضح للتشريح.

كما أنه صوّر الحياة اليومية من دون مجاملة أو تحيّز، إذ أنّ لوحاته تعكس مجالس الأنس والخمر والطرب والحياة العامة من مبانٍ وأسواق ومساجد ومجالس قضاة.

لقد كانت مدرسة بغداد تقرأ الواقع كما هو لا بالتمني ولم تكن تنفذ المواضيع الحياتية بفكر أُحادي أو بنَفَس قصير، بل كانت الموضوعية والفهم الواسع اجتماعيًا وفنيًا المسار الذي سارت عليه رسوم الواسطي في عرض وتنفيذ مقامات الحريري.

 وكما يبدو لمن تتبع الواسطي ومدرسة بغداد فإنّ هذه المدرسة استحوذت على أساليب الرسم والتصوير في بلدان مثل مصر والمغرب وسوريا والأندلس وكانت رائجة جدًا. وأصبح إنتاج هذه المدرسة الذي بدا و كأنه حرفي من الموروث الشعبي عملاً كلاسيكيًا أكاديميًا.

لكنّ بعض المناطق العربية الإسلامية لا سيّما منطقة الجنوب الشرقي ووسط الجزيرة العربية حُرمت من الإبداعات التشكيلية أو ربما بدت إبداعاتها محدودة، وما تمّ العثور عليه من مخلفات من عصور ما قبل التاريخ لم يجرِ بحثه بشكل مفصّل وعميق. وجدت بعض الرسوم من عصر ما قبل التاريخ، أغلبها إنسانية وحيوانية منفذة بطريقة أعواد الثقاب أو السلوويت على جدران الكهوف وعلى سفوح الجبال في مناطق من عُمان كما عُثر على بعض الفخاريات ذات الصفات الفنية المحدودة اتّسمت غالبًا بالفجاجة.

في العصر الإسلامي استحوذ الفن المعماري على الساحة، واتسمت البنايات بالبساطة والتقشف أغلب الأحيان مع بعض الاستثناءات، فرضت ذلك المفاهيم الطائفية (وهذه ظهرت في وقت متأخّر) التي ربّما خضعت لتأثيرات خارجية ولست هنا بصدد تقصي الأسباب وبحثها بل بعرض واقع الحال فقط.

واستمر الإنتاج الحرفي البسيط الذي يلائم البيئة المحلية القاسية من صناعة القوارب أو الأبواب أو الحلي ومنها الخناجر والسيوف وكلها مزخرفة ويغلب عليها التأثير القادم من اليمن أو من المناطق التي كانت على صلة بالمنطقة بحكم موقعها الجغرافي وإطلالها على بحر العرب أو الخليج، كما ورد في مجلة نزوى العدد-25يناير 2001 في موضوع الأشغال في الآثار الخشبية العمانية.

(…….و نقشوا أشكالاً زخرفية على الأبواب وعتباتها وإطارات النوافذ وكانت غالبًا ما تعكس هذه الأشكال نظيراتها الموجودة على المباني في البلدان المتاخمة لبحر العرب وخصوصًا غرب الهند وعُمان وزنجبار وتبدي أوجه شبه فنية متميزة تشكل ما يمكن أن نطلق عليه بحضارة غرب المحيط الهندي).

وربما كنتيجة لمحدودية الخبرات التراكمية في منطقة الخليج وخاصة بعض مناطق وسط وجنوب الجزيرة باستثناء اليمن لم تزدهر المنطقة من حيث التنوع في النتاجات التشكيلية وأحيانًا كانت معدومة تمامًا ولفترات زمنية طويلة جدًا، وعانت المنطقة من الفراغ التاريخي للفن التشكيلي بشكل عام.

ولكن في العصر الحديث وفي الوقت الذي اكتشفت فيه الثروات النفطية تغيرت موازين القوى الفكرية والحضارية وأصبح وجود الفن التشكيلي مطلبًا ملحّاً.

ثم باستقدام التكنلوجيا العصرية من بلدان متطورة (والتي حدث تطورها بشكل عضوي تدريجي مستغرقًا قرونًا) وجدت الحاجة لخلق جو فني تشكيلي، إذ لا يجوز الاقتصار على التقدم التكنولوجي المستعار وحده لخلق مجتمع يواكب التطورات العالمية، غير أن استعارة الفنون عمل غير مجدٍ، إذ يجب أن تكون هناك قاعدة فنية تستند على أصول ومقومات متجذرة في البيئة والمجتمع، وهذا ما تفتقر إليه المنطقة تمامًا. إذ كما يقول شيغال: إنّ أهم لون نستخدمه في الرسم والتصوير هو لون الحب. هذا يعني أنّ التجربة يجب أن تنبع من الوجدان وتكون مترسخة في الأعماق.

كما أن الشاعر والناقد الفرنسي بودلير يقول:

“ليست الحضارة الحقيقية في الغاز والبخار والطاولات المستديرة، بلّ في التقليل من الشعور بالخطيئة الأصلية”. هنا يشير بودلير إلى سيطرة فكر ديني طائفي كان يسود المجتمع الفرنسي حجّم وحدّد من الإبداعات خلال أواسط القرن التاسع عشر وأواخره.

 نجد الآن في منطقة الخليج المبالغة في الاعتماد على استخدام تقنيات الفن الحديث وما بعد الحداثة في أغلب الإنتاجات الفنية والقصد من هذه الاستعارات المختلفة الخروج من المأزق، وذلك لقلة التدريب الأكاديمي أو انعدامه وللعزوف عن استخدام الموديل والشكل الإنساني وهذه الاستعارات تبدو واضحة لمؤرخ الفن والناقد الفني التشكيلي المتبصر.

إلاّ أن الموهبة لن تتطور إلا بالممارسات الطويلة وبالدراسة، ليست المدرسية المنهجية بالضرورة بل قد تكون بشكل فردي ولكن بالأساليب الصحيحة، فجوجان مثلاً لم يدرس في مدرسة متخصصة ولكنه راقب الفنانين وشاركهم مراسمهم واستفاد من خبراتهم وقضى سنوات طويلة يتدرب عمليًا. 

هذا لا يعني عدم وجود بعض الأعمال المتميزة إذ لا نستطيع إلغاء الموهبة الفنية الطبيعية فهي جزء من الموروثات الجينية. 

في الزمن الراهن وفي منطقة الخليج بالذات برز جيل من الرواد- رغم قلة عددهم- من الذين تأثروا بشكل أو بآخر بالفنون القادمة إلى المنطقة من بقاع مختلفة، لديهم القابلية والموهبة كما أن الخلفية الثقافية التي توافرت حينها لكثير منهم ساهمت في بلورة نتاجاتهم التشكيلية و صقلها.

 هنا سأتحدث عن البكري كمثال على ذلك، إذ أنه قد نمّى موهبته بالتدريب في أحسن المعاهد الفنية المتخصصة ودرس الفن حسب أصوله الأكاديمية الصحيحة. مثل لوحات (التمثال الجيني، تخطيط رجل و تخطيط بالحبر الأبيض على خلفية سوداء وتخطيط رجل)

والبكري مشروع ثقافي منفتح على أجناس مختلفة من الإبداع الفني: قصائد شعرية وترجمات عديدة وإحساس موسيقي وتجارب فنية تشكيلية متنوعة المدارس والنزعات يبوح ببعض منها ويخبئ الأخرى أو يختفي خلفها.

يقول البكري: إنّ الكلمة هي الأصل وهي التي تتوج كل ما نؤمن به والقرآن الكريم يقول (إقرأ) والقراءة هنا عملية مساهمة ومزاوجة بين حرف يأخذ طابعًا تشكيليًا وخلفية فكرية وفلسفية.

تكرار الكلمة يعني تكرار الصورة الحسية والكلمة تتفاعل في أذهاننا عبر حروفها المنسقة و تتجمع الكلمات لتشكل مفردات شعورية ترتبط بالذاكرة و الذهن.

  المفردة التشكيلية لها نفس الفاعلية، فلو أخذنا شجرة كمفردة تشكيلية فإن آلاف الأشجار قد انطبعت في الذاكرة و لكل واحدة خصوصيتها، فهذه الصور التشكيلية مغروسة في اللاشعور وهذا ينطبق على الصخور والرمال و غيرها من الأشكال.

 إنّ فهم هذه المفردات واستيعابها ليس بالأمر الهيّن ومثله تجميع هذه الوحدات لتشكّل علاقة تعتمد التجريد فيما بينها، لا أقصد التجريد كمدرسة فنية ولكن كملكة حسية وكمملكة الخيال الّتي يقرر الفنان التشكيلي فاعليتها البصرية وفقًا لتجاربه الطويلة ويحدد اللون ويؤكد المساحة والعلاقة الجمالية بين كل هذه المفردات.

ويسيطر الانسجام والتناغم على فكر الفنان التشكيلي ذي العين النافذة المتمرس المدرب تدريباً أكاديميّاً علميّاً، ومن دون أن تعي عضلات اليد وبفعل أقرب ما يكون إلى الفعل الانعكاسي تبدأ اليد بالعمل لتخرج أشكالاً نجد فيها الحساسية الإنسانية للون والشكل والخطوط.

إنّ البكري قد مرّ بشكل عضوي وصحيح بمراحل نمو الفنان وتطوّره، جرّب أساليب مختلفة رغم تنوعها بقيت محافظة على نفسه وروحيّته، وذلك من استعمال المفردة وتنوع الألوان وتوزيع الأشكال والبعد التراثي المتأثر بالبيئة الأفريقية والعربية. كلّ هذه المعطيات انطوت تحت راية الفلسفة والفكر الإسلامي الواضح الحضور في كل ما نفذّه البكري. 

في لوحات البكري ذات التشكيلات الخطية وما يطلق عليه الحروفية نجد منحىً صوفيّاً للتكرار وكأننا نسمع ترديد القول الصوفي (الله الله أو الله حيّ الله حيّ) وهذه تأخذنا إلى أبعاد تأملية، فهي لا تخاطب بصر المتلقي فقط بل بصيرته أيضًا، تجول داخل الروح والعقل والعاطفة وتجعل من هذا الثلاثي وحدة متكاملة، وبالتالي تدفع هذه المكونات المتحدة المشاهد إلى التأمل وتعوم في بحر من الفضاء حيث عشق الحروف الواحد للآخر. إنّ تلاصقها وتماسكها يعيدنا إلى الوحدة التي نبعت عن التوحيد.

ثم تأتي المساحات اللونية الصارخة لتضفي بعدًا آخر على هذه التشكيلية النغمية الصوفية، إذ تحدد بعداً شرقيّاً أفريقيّاً واضحاً حرارة لون وصخبه وضجيجه في عالم منتظم محكم مدروس.

 ورغم التكرار إلا أنّ حرارة اللون تكسر هذه الرتابة، إذ أن التكرار هنا ممتلئ بالتفاعلات اللونية الّتي تعطي مناخًا آخر، مناخاً حارّاً يجعلنا نكاد أن نسمع النغمات الصوفية أو نرى الحركات الصوفية الإيقاعية ونحس دفء الأجساد التي تتفاعل مع تردد الكلمات في حلقات دورانها.

 ومن دون أي تردد تتداخل مع هذه الأشكال الحروفية الزخرفية أقنعة ووجوه تأخذنا إلى عوالم السحر وما فوق الطبيعة، عوالم ملؤها تفاعل الخيال والحلم والواقع، فهذه التحويرات الشكلية والإيقاع الحركي والصخب اللوني، هذه التوليفات كلها تؤكد وحدة الزخرف –الحرف- وروحانيّته. والقناع يشي بفكر يؤمن بالتوحيد المطلق متأثّر بعوالم أفريقية فيها السحر والأرواح و ما فوق الطبيعة من خيال جامح (لوحة حركة، لا إله إلا الله، أرواح).

 

 التوليفات التي تستخدم القناع كوحدة تشكيلية متفردة ومستعارة من الفنان الحرفي الشعبي والتي وظّفها البكري بشكل ذكي ومتكامل حين أضفى على الأقنعة الشعبية بعدًا أكاديميًا، 

ورغم الحضور الأفريقي الواضح فيها إلا أنه حورها لتأخذ البعد الفني الهندسي المعماري العربي الإسلامي بشكل طاغٍ، فنجد أنصاف دوائر ومربعات متداخلة وقاعدة مستطيلة يرتكز عليها قناع بيضوي الشكل يوحي لنا بأنه منفذ للنور كما أن بناء المساحات اللونية يشد الأشكال بعضها بعضًا كالبنيان المرصوص (لوحة حركة).

 تجريد الأشكال هنا يعود بنا إلى عالم طفولة ملؤه الخرافات والحكايات نضيع فيه بين الرموز الآدمية و الحيوانية، إذ تمتزج بشكل غير منطقي لا عقلاني في حركات لونية جامحة و دسمة تشكل جدارًا معماريًا و تؤكد بعدها الشرق أفريقي و النظر إلى اللوحة ككل يعطينا إلهامًا و بعدًا بانوراميًا و امتدادًا لا تستطيع العين التوقف عن متابعته. (لوحة أرواح)

وفي لوحة (قنوط و يأس) نجد المرأة قد اكتسبت بعدًا أبعد من واقعها، فالرقبة الممتدة والمبالغ فيها وطريقة احتضانها للطفل تقول لنا بكل علانية ووضوح: هذا ما يعاني منه طفلي، انظروا إليه. وتقدمه للنّاظر بكل قسوة وواقعية. اللوحة تحكي لنا المأساة الأفريقية -القحط والجفاف- من خلال خطوط محددة قوية ومقتصدة فلا إسراف في اللون والخطوط بل إسراف وبذخ في التعبير والعواطف والصدق والألم والجوع.

في (لوحة طمع) نجد وليمة الكلاب الوحشية، ورغم تنفيذ هذه اللوحات بأسلوب حديث في توزيع الألوان وتشابك الخطوط إلا أننا نكاد نحس بحرارة لهاث الكلاب وهي تنهش فريستها، وفيها حساب دقيق لكل حركة لعضلات الحيوانات وتحديد دقيق لمكان تجمعها والخلفية التي تناغمت مع الحيوانات المفترسة بشكل يقنع النّاظر ويوحي له بأن ما يراه حقيقة واقعة رغم عدم واقعية لون الحيوانات الأحمر إلا أن استخدام  هذا اللون دليل على شراهة هذه الحيوانات التي تنهش الفريسة و وجوه الحيوانات التي تقابل المتلقي و عيونها كلها إشارات تحدٍ و مجابهة لروح طماعة و تعبير ذكي عن الرغبة بالافتراس. 

وفي لوحة (الزبرا) نحسّ بألفة هذا الحيوان، حدد الجسم بخطوط تسير مع تموجات العضلات بيسر وسهولة وتدلنا على التشريح الصحيح

img_2060
Al-Bakri, Zebra

بخطوط مقتصدة قليلة، وبحركة فاعلة قوية تجعل المتلقي يحسّ بتجاوب مع هذه الحيوانات المنشغلة ببعضها، لاهية عما يحيط بها متماسكة قريبة من بعضها.

في كل هذه الأعمال أجد البكري هاربًا من كل الصياغات التي قيد نفسه بها لاحقًا واستخدم صياغات تذكرنا بمراحل لبيكاسو وميرو وحتى هنري روسو.

لوحة استوائيات  

صياغته السابقة-الحالية، والتي برزت في معرضه الأخير الذي أقامه في جامعة السلطان قابوس تشخيصية عقلانية تنقل لنا مشهدًا مسرحيًا نعرفه وقد ألفناه مشهدًا قد يكون انفعاليًا أو هادئًا يجسد فيه كلّ مخزونه المعرفي من الحرفة التي تمّكن منها لا ينكر أنه تعامل مع الموضوع بأسلوب انطباعي.

نقل لنا مشهدًا حقيقيًا، ولكن كيف تعامل مع مفردات هذا المشهد؟ لا شك بأنه تعامل معه بصدق وإخلاص وأضفى عليه بعدًا تعبيريًا رومانسيًا، لوحة تفصيل منظر للبحر مثالاً.

 فمن خلال هذا النشاط نقل لنا إحساسه بالجمال، ولكن أحس هنا أنه كان إحساساً مغلفاً بنوع من الوعظ والتحذير قائلاً: هذا ما موجود، أبقوا عليه. فهنا يجمع بين دور الفنان ودور المرشد الناصح رغم أن هيغل استبعد أن يكون للفن دوراً في بث الوصايا والتعليمات، وأن استخدام الفن كوسيلة تهذيب أخلاقي هو انتهاك لصفة الفن النهائية، إذ أن الفن هو غاية وليس وسيلة، كما أنّ هيغل أعطى للمضمون والشكل بعدين متساويين، ولكن إذا كان النصح ضمنياً دون أن تتم صياغته كمفردة توليفية واضحة و دون الإفصاح عنه علانية في الوحدة التشكيلية  فإنه مبرر و هذا ما فعله البكري في لوحاته البانورامية.

إلا أنّه عند النظر في المفاهيم الهيغلية حول تصوير الطبيعة يقول: إن الجمال الفني المستوحى من الطبيعة هو أرفع شأناً لأنه نابع عن روح الفنان لذا فالجمال الفني المصور عن الطبيعة هو انعكاس لروح الفنان.

إنّ منظراً طبيعيّاً ثابتاً واحداً قد يصوره اثنان فيأتي كلٌّ منهما بنتيجة مختلفة لأن عمل كل منهما نابع من روحه، حيث أن الطبيعة متغيرة ولا تبرز الفكرة بشكلها المتكامل بل هي عدة مقاطع لمتغيرات بينما المشهد الفني ثابت ومتكامل، كما أن الجمال الطبيعي ليس جميلاً لذاته بل جميلاً لوعينا في إدراكه. 

 إلاّ أن بندتو كوتشه يذهب إلى أبعد من هذا إذ يقول: إنّ الطبيعة لا تبدو جميلة إلا لمن يتأملها بعين الفنان، ويقول هل أن هذا النهر وهذا الحصان وهذه الشجرة أسمى وأجمل من تلك التي صورها دافنشي أو مايكل انجلو؟ إنّ الطبيعة بليدة إذا ما قيست بالفن، إنها خرساء ما لم يتكلم الفنان عنها بلسانه، ولكن سنتلنا الفيلسوف الأمريكي يرفض هذا المبدأ تماماً فإن الشكل الطبيعي غير محدد ومتفاعل وعضوي وينمي القدرة على الخيال، والشيء الذي ينمي عندنا هذه القدرة لا بد أنه أسمى وأجمل من النتاج الثابت الجامد، وأنّ المنظر الطبيعي مكون من عدة جزئيات تظهر لنا تباعًا وليس منظراً واحداً فإن الرسم هو جزء من هذه المجموعة الحيوية المستمرة التي قد تعجز أعيننا عن متابعتها. 

وأعتقد أن هذه اللوحات يمكن أنّ تقع في وسط هذا الجدال مهما كانت التبريرات لرسم هذه اللوحات إذ كما يقول البكري: أنا من دعاة حفظ الطبيعة وعملي قد يأخذ الصفة التسجيلية (لوحة منظر طبيعي للوادي). 

إلاّ أنّ الناقد الفني لا يستطيع إلا تصنيف هذه اللوحات ضمن المدرسة الانطباعية مغلفة بمسحة رومانتيكية (رومانسية).

 نجد في هذه اللوحات الطبيعة قوية جبارة مسيطرة وكما يقول ديلاكروا عن الطبيعة: (فيها الكثير من المفردات. إنها قاموسنا التشكيلي، منها نستخرج المرادفات والاشتقاقات لتوليفاتنا التشكيلية). 

لا شكّ لديّ بأنّ البكري قد خزن الكثير من هذه الاشتقاقات اللغوية التشكيلية وقدمها لنا على أنها الحقيقة، ولكن أستطيع هنا أن أجد خياله ويمكنني بسهولة أن أشخص بمَ تأثر، ففي لون الجبل والظل والنور والإضاءة النابعة من اللامكان أجد رمبرانت وفي السحب أجد ترنر وفي الجبال القاسية أجد فريدرخ وأجد الكثير من التعديلات التي اقترحها سيزان عند تصوير الطبيعة عندما تأخذ الأشكال بعداً هندسيّاً.

البكري تدرّب أكاديمياً بشكل متقن ودؤوب وخضع لكل ما يخضع له دارس الفن التشكيلي من انضباط. درس التشريح كما يدرسه طالب الطب ودرس المنظور كما يدرسه طالب الهندسة المعمارية ودرس التاريخ وحلّل تاريخ الفن كما يدرسه دارس التاريخ ودرس رسم الموديل الحي وتتبّع تطبيق التشريح والمنظور عبر تنفيذ رسم ذلك الإنسان وتابع تطور الفنانين. عن ذلك يقول: وقوفي لساعات أمام أعمال فان كوخ في متحف أمستردام علمني الكثير عن الضوء والحركة.

 

هكذا يخلق الفنان وينشأ نتيجة مواصلة جهد أكاديمي علمي بحت لا تنازل فيه ولا مداراة ولا مساومات. 

عتاب صغير للبكري: لا شكّ بأنّك رجل صاحب رسالة تريد المحافظة على بيئتك بتسجيلها، و لكنّ كاميرتك الذّكيّة تفعل هذا بصدق، دع خيالك يسرح في عوالمك المخفية الّتي خبّأتها. دع الناس يشاهدون إبداعاتك. العالم يتطور باستمرار والفن يواكبه، بل يسبقه أحياناً وأنت قد أنتجت أعمالاً تواكب هذه المسيرة وسابقت الزمان بها، فدعنا نتمتّع بها ولا تبخل علينا بالمزيد.   

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply