
Every time I look at your portrait I feel as I have seen you before. Your portrait was there in every house where I lived. Every time I entered a neighbour’s house with my female friends – we were aged between seven and 10 – I looked at your portrait. The others would want to move away quickly, but I would linger for a while; I felt I needed to talk to you. You too looked as if you would like to tell me something. I had to leave you, as my friends insisted I should join them to carry on playing around in the alleys or on rooftops.
Sometimes I could see in your eyes clouds that transmuted to tears before they forced their way out like raindrops associated with thunder and lightning and driven by angry winds in March. Sometimes I could see in your eyes a stray beam that echoed a sigh. At other times I could feel you wished to whisper in my ears your secret, but I did not know how to access your message.
I offered no help to you at a time when you kept waiting for me to give you any sign. We moved, in the 1950s, from the neighbourhood. But I did not know why we had not moved your portrait with the rest of the furniture to our new house. Did we break it? Or did we break it when we were hanging it on the wall in the living room? Or possibly one of my sisters or brothers had objected to keeping your portrait, claiming that it was out of vogue now, at a time when the country was about to step over the threshold into a modern era. And if that was true, why did I not defend your presence, especially as you tried to tell me your story?
A couple of days ago I had a feeling that you were with me wherever I went, during the day and at night: you sort of haunted me; I felt I was obsessed by you and you were persistently trying to make me listen to you.
Now I could remember, before moving to our new house in the new area, I sometimes could not find you where you were within the frame of your portrait. I often wondered where you were going, and why.
“It’s high time I told you everything,” Bintal M’aidi said.
Bintal M’aidi was the nickname of Tiswahen, who lived in the marshes south of Iraq when she was young. She was loved and admired by her people all over the country after World War I. Her portrait, whose painter has remained unknown, was seen in almost every house. Every Iraqi family at the time was keen to keep her portrait. She looked gorgeous. However, a touch of melancholy overwhelmed the entire work of art.
She lived a peaceful life in the beautiful marshes of Um Ni’aj. She was a friend to all creatures: buffalos, the backbone of the economy of life in the marshes, birds of different kinds and colours, fish, cane-like plants and reeds. She paddled in the water in her meshhoof, a smaller kind of a canoe. She was at ease everywhere.
When she was mysteriously uprooted from her environment by the British occupier, as some witnesses reported, she started feeling the pain of the separation.
When the British occupied Basra in 1914 and defeated the Ottomans, they started heading to Amara and Kut to safeguard a passage to Baghdad. In the meanwhile the Ottomans insisted on recapturing Basra. So they asked the Arab tribes of the marshes to give them support. The tribal men joined the Ottoman troops so that they could defend their homes and families. Despite their huge sacrifices, the Arab tribal men could only resist for a short time because of the heavy fire by the British from land, water and air (aeroplanes were used against the marshes people and not exclusively against the fighters who were led by the Ottomans.)
A few weeks before the British invasion of the marshes a stranger, according to Tiswahen’s account, spotted her early in the morning on her daily trip deep into the marshes in her meshhoof, collecting fodder for the buffalos. He was impressed by her courage and beauty. He thought he had already seen her in a Sumerian tablet and her meshhoof reminded him of Gilgamesh’s meshhoof which was on display in the British Museum in London. He proposed to her, but she and her family rejected his offer.
Following the chaos in the wake of the indiscriminate shelling and bombardment by the British, Tiswahen disappeared.

بنت المعيدي
في كلّ مرة أراكِ أظن أنني رأيتك من قبل. كانت صورتك معلقة في كل بيت من بيوت محلتنا، في كل بيت أدخله مع صديقاتي من بنات المحلة حين كنا بين السابعة والعاشرة من العمر. كنت أراك، هنّ يسرعن في الخروج بعد أن نكون قد شربنا الماء أو أخذنا شيئاً أوصانا أن نحضره أهل إحدى صديقاتي بينما أقف لأكلمك وكأنك تنادينني لتخبريني شيئأً ولا تفعلين. أتركك بعد تكرار صيحات صديقاتي عليّ كي أغادر المكان لأنّ هناك ما ينتظرنا من ألوان من اللعبات مسرحها الدربونة أو سطوح المنازل. أراك في وسط الجدار في كل بيت في غرفة الضيوف أو غرفة الجلوس، وهي أحسن الغرف لاستقبال الضيوف فيها وحيث يعتني الناس بتزيينها وتجميلها، وليس من جمال يضاهي جمالك ويفرض وجوده هناك أعلى الجدار قبالة باب الغرفة حيث تجذبين نظر الداخل إليها في الحال. في كل مرة أقرأ في عينيك ما يختلف عمّا أقرأه في مرة أخرى، مرة ألمح في عينيك غيمات تتكاثف وتتجمع بسرعة حتى تضيق عيناك بها فتفرّ منهما قطرات مطر تصحبها رعود وبروق كما في غيمات شهر آذار تزبد وترعد تدفعها رياح غاضبة في مزاجها ومتى ما أفرغت حمولتها هدأ كل شي، ومرة أرى في عينيك شعاعاً تائهاً لا يلوي على شيء وكأنه لا يدري ما يريد سوى أنه سجين حسرة خرساء بكماء صمّاء، ومرة أسمع لنظرات لك صوتأً يهمس لي أنك ترغبين أن تحكي لي ما لا تسطيعين أن تحكيه لغيري فأظل مشغولة كيف لي أن أفك شفرة حكايتك، ومرة يسيل العتب من عينيك وكأنه يوميء إليّ أن أحتضنه فأطمئنه فيبوح لي بسر العتب ذاك. مرة أراك مترفة وكأنك أجمل الأميرات في ترافتها تنعمين بما لا ينعم به الملايين من البشر غير أن هناك ما هو مدفون في صدرك غير محكيّ أو عصيّ على الحكي. مرات أتساءل: ترى من يصفّف شعرك بهذا الجمال؟ ينسدل على جانبي صدرك كنهرين يشبهان دجلة والفرات وأمّا أعلى رأسك فقد صُفّف شعرك ليكون تاجاً كستنائي اللون تزينه خصلات تنافس في جمالها أغلى الأحجار الكريمة وأندرها.
لم أكن لك عوناً وعلى مر السنين الطوال بقيت أنت في الانتظار. تركنا محلتنا في الخمسينيات من القرن الماضي ولا أدري لمَ لمْ ننقل صورتك إلى بيتنا الجديد، لمَ نسيناك. هل انكسرت صورتك أثناء نقل أثاث البيت؟ أم انكسرتْ عندما كنا نحاول أن نعلّقها في غرفة الاستقبال في بيتنا الجديد؟ أيكون السبب اعتراض أحد إخوتي أو إحدى أخواتي لأنّ الصورة لم تعد تواكب الحداثة في بلد كان للتوّ ينطّ برأسه ليدخل مرحلة الحداثة لاسيما أنّنا كانت لنا معاً أحاديث كثيرة اخترت أنت أن تحكيها لي من بين إخوتي وأخواتي وغيرهم كثيرون؟
قبل أيام وجدتك معي تلازمينني بل تحاصرينني من كل جانب ليل نهار أينما ذهبت وحيثما توجهت في داخل البيت وخارجه، أثناء العمل وفي النوم صباحاً ومساء وفي كل وقت، تلحّين عليّ أن أنتبه لك وأن أصغي إليك. الآن تذكرت، في محلتنا في جانب الكرخ حيث كنا نسكن في محلة الكريمات وعندما كنت أنا وصديقاتي نطوف بيوت المحلة نخرج من بيت لندخل آخر كنت أحياناً لا أجدك هناك في بيتك/ الصورة، وكنت أتساءل أين كنت تذهبين ولمَ كنت تخرجين. وما زلت لا أفهم.
“الآن سأخبرك بكل شيء” قالت بنت المعيدي.
كنت في رحلتي الصباحية في هور أم النعاج حيث بيتنا الذي يستريح على بقعة تلاحم فيها القصب والتراب والطين لتكون الكفّ الذي يحمل بيتنا فيرفعه أعلى من مستوى مياه الهور إلى جانب عدد آخر من الأكفّ التي تسند بعضها بعضاً في حضن قريتنا الصغيرة في أهوار الحويزة الواسعة في محافظة العمارة، كنت قد وصلت في قلب الهور حيث أوراق البردي الطريّة التي أجلبها في مشحوفي الذي يرافقني في كل رحلاتي تلك لصديقاتي الجاموسات الأمهات منهن والصغيرات. وكم كنت أحب تلك اللحظات التي تجمعني بصديقاتي الجاموسات وهن يستقبلنني وأنا محملة بفطورهن الشهي من البردي ، أشعر أنّ أعينهن تفيض من الشكر والامتنان وتلتمع التماعات مبللة بالحنان والمودة، أمرّر يدي على رؤوسهن فأمسح بها على جباههن والرقبة ولا يكون منهن إلا أن يمسحن برؤوسهن بجسدي ويمعنّ في ذلك. أتركهن لأشارك أمي وخالاتي مهمة حلب الجاموس، وبهذا تكون مهمّات الصباح قد أنجزت.
الهور في الصباح الباكر يختلف عنه في بقية أوقات النهار، هو رقيق حنون يتنفس سلاماً يسكن نديّاً على كل شيء، على المشاحيف الفارغة منها والمشغولة بشاغليها، منهم من كان مشغولاً بلملة شباكه بعد أن امتلأت بالسمك الذي سقط في الشراك التي سبق أن نصبت له قبل ساعات فلا فرار له منها، ومنها ما امتلأ بحصاد القصب، ومشحوف هنا أوهناك اختار شاغله أن يبحر مبكراً كي يغني قلبه الذي عجز أن يهدئه فصار يجرب صوته في خطاب يقطر حزناً وعتباً على ما يخفيه ذلك القلب التعب من الشوق أو الحزن، كلما أنبت مرديّه بقوة في قاع الهور ارتفع صوته ليخترق ذلك الشفق البعيد الذي يمتد أشرطة برتقالية اللون تذوب في النهايات فتاتاً مبعثراً تنقره طيور الزقزاق، لا تلوي على شيء سوى أنها أغرمت بخط مسارات لهوٍ لها طشّته دون اكتراث لرقيب أو لخطر، أما مجاميع البط والبش فلاهية بلعبها على الجباشات ، تصعد إليها فتنبش تربتها بحثاً عن طعام لها ثم تنزل مسرعة منها لتسير في موكب طويل في مياه الهور لتتفرق بعد برهة تجذبها مشاهد السمك الصغير في قاع الهور فتغريها بالغوص أثرها. حتى في ذلك القاع ينام السلام فلا تشعر بالخوف، تلك الأشنات تنمو وتكبر دون أن يرعبها الناظر إليها عبر المياه وكأنه ينظر في مرآة صقيلة ولا صوت ذلك الذي يطلق العنان لصوته حزيناً أو عاشقاً بين أحضان القصب الذي يزداد انحناءً عليه حين يألم كما يألم هو، ويتوقف القندس وهو يبني بيته متوسلاً به أن يكف عنه صوته الحزين لئلا يبكي صغاره.
كنت سعيدة بمهرجان الطيور في ذلك الصباح، كلها تبدأ أناشيدها وأغانيها في آن واحد: الكروان والغيّوب و الزقزاق ومالك الحزين والكركي وأنواع أخرى تحل ضيوفاً علينا في موسم الشتاء، أشعر أن كلّاً منها يكلمني بلغته وأنا أفهم لغة كلٍّ منها. كنت في مهرجان الطيور ذاك عندما ظهر رجل غريب وجّه الحديث إليّ قائلاً:
“هذا هو ذات المشحوف الذي ركب فيه جلجامش وأنتِ …وأنتِ…وأنتِ هي أنتِ. أخيراً لقد وجدتك كما وجدتك في اللوح السومري الذي اطّلعت عليه في متحفنا في بريطانيا العظمى وبقيت أبحث عنك والآن وجدتك” .
“ما اسمك؟ وأين تسكنين؟ وهل بيتك بعيد عن هنا؟ أجيبي بسرعة قبل أن أفقد عقلي” سأل الغريب (تسواهن) وهي في مشحوفها محاطة بعرش القصب من كل جانب فتبدو وهي في وسطه نخلة باسقة محمّلة بعسل تمرها الناضج البهي.
كان خوف تسواهن أعظم من دهشتها واستغرابها لوجود مثل هذا الغريب في موطنها، غريب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فعلى الرغم من أنه يتكلم العربية فإنّ كل شيء فيه غريب بدءاً من مظهره إلى بشرته البيضاء وشعره الأشقر.
“وأنت من تكون ومن أين أتيت؟ أنت غريب عن موطننا. ما شأنك بي وماذا تريد مني؟” ردّت تسواهن عليه بينما أشاحت بمقدمة مشحوفها المجلل بالقصب وقد وقفت أنواع من الطيور عليه قسم منها يلهو بينما راح بعض منها يجرب منقاره في البحث عمّا يمكن أن يجد فيه ليأكله- بالاتجاه المعاكس في محاولة للابتعاد عن ذلك الغريب.
“لن أتركك. فقط أخبريني أين تسكنين. أريد ان أحلّ عليكم ضيفاً، ألا ترحبّون بالضيوف؟ ألستم بعرب والعرب حسب علمي يكرمون الضيف؟”
“إن كنت ضيفاً فلا بأس. بيتنا في الأيشان الرابع وأنا راجعة الآن لأخبر أهلي أنّ هناك ضيفاً سيطرق بابنا” ردت تسواهن.
تبع ذلك الغريب تسواهن في مشحوفها ووصل على أثرها الأيشان الرابع حيث بيتها، نزلت من المشحوف بعد أن ربطت مقدمته بذلك الوتد المثبت في مقدمة البيت وهرعت إلى داخل ذلك البيت المصنوع من قصب الهور وطين الهور أي هيكله العظمي ولحمه، بينما انتفضت الدجاجات اللاتي كنّ يبحثن في باحة الدار عن طعامهن المفضل من ديدان الأرض الطازجة، انتفضن وطرن فارداتٍ أجنحتهن وهن يصرخن عالياً إثر مرور تسهوان السريع وسطهن دون انتباه منها، كانت مشغولة ومنشغلة بذاك الغريب.
– ماذا وراءك؟ سأل الأب تسواهن.
– هناك ضيف ينتظر على الباب. أجابت تسواهن.
ضيف يبدو غريباً عن منطقتنا ولا يشبهنا على الرغم من أنه يتكلم العربية.
خرج الأب ليلقى الضيف فوجده غريباً تماماً وكأنّه قد هبط من عالم آخر لا عهد له به:
– أهلاً، تفضّل.
دخل الضيف وجلس على بساط ملون بألوان حارة مختلفة التدرجات صنعته أيادي نساء الهور اللّائي ورثن فن حياكة البساط عن جدّاتهنّ السومريات من السّكّان الأوائل لموطنهنّ سومر، في الأهوار. دهش الضيف الغريب بتفاصيل البساط وألوانه وهي ألوان بيئة الهور وتفاصيله وأحيائه، مجموعة ألوان اشتقّت من ألوان ريش أنواع من الطيور المحلية والمهاجرة بدءاً بألوان ريش البط والبش وانتهاءً بألوان الطيور المهاجرة وفي مقدمتها الفلامنكو، فضلاً عن ألوان المياه والأسماك وتدرجات الأخضر للقصب وزهرته الصفراء وحمرة الشفق والغسق واللون الأسود وتدرجاته للجاموس سيد الأهوار والعمود الفقري لاقتصاده.
– لن نسألك حاجتك الآن إلّا بعد أن تتناول طعامك، حسب العرف السائد عندنا. قال أبو تسواهن. جاء أخو تسواهن بطعام الغداء فوضعه أمام الضيف: سيّاح بالسمك ولبن وتمر وخبز التنور الشهي الطازج.
لم يشأ الضيف تناول الطعام ولكنه اضطر إلى أكل القليل لأنه لا يستطيع طلب حاجته ما لم يأكل أوّلاً. ثم رُفع الطعام ليليه الشاي المعد على نار القصب .
– الآن وقد تناولت الشاي نستطيع أن نسألك عن حاجتك.
– جئت خاطباً لابنتك تسواهن.
– ماذا؟ أعد عليّ ما قلت، أكاد لا أصدق أذنيّ وما سمعتا.
– جئت خاطبا لابنتك تسواهن. ردّد الضيف قائلاً أنّه معجب بجمالها وشجاعتها.
– لا يمكنني أن ألبّي لك حاجة مثل هذه. اطلب أي شيء آخر يمكنني أن ألبّيه لك. هذا طلب تستحيل تلبيته. قال الأب وقد بان من طريقة كلامه ونبرة صوته أنّه مصرٌّ ولا رجعة عن كلامه.
ظل الغريب يتردد على الأيشان الرابع حيث مسكن تسواهن وأهلها مكرّراً طلبه والأب وعائلتها جميعاً يرفضون طلبه وأولهم تسواهن نفسها.
“اختفى الضيف مدّة من الزمن وعاد مرة أخرى محاولاً أن يقدم بعض المغريات لأهلي، عرض عليهم ذهباً ومالاً وهدايا ثمينة فقوبلت عروضه هذه المرة بأشد الرفض وشرح أبي للغريب أنّ طلبه يتنافى مع ديننا وأعرافنا الاجتماعية ناهيك عن أنني أنا نفسي غير راغبة في ذلك ولا مستعدة للابتعاد عن أهلي واللحاق بشخص غريب إلى ديار الغربة. تجرّع الغريب مرارة الرفض وترك القرية واختفى فترة من الزمن.
وبعد أسابيع قليلة فوجئنا بالقذائف تنهال على بيوتنا وعلى الهور بشكل عشوائي ولم يسلم الجاموس ولا الكلاب ولا الطيور ولا حتى السمك في الهور من تلك النيران الوحشية، وامتلأ الهور بصرخات رجال العشائر الذين استماتوا في الدفاع عن أرضهم، وبالرغم من استبسالهم وتضحياتهم لم يستطيعوا صدّ نيران الطائرات التي أحرقت بيوتهم. استُشهد أبي وإخوتي وأبناء عمومتي واحترق بيتنا وقتلت حيواناتنا. وفي وسط ذلك الرعب والخوف انقضّت علينا قوة واختطفتني من بين أمي وأخواتي وخالاتي وعماتي اللاتي رحن يصرخن ويبكين وهن يتوسلن إلى الخاطفين أن يتركوني. عصبوا عينيّ ولم يرفعوا العصابة حتى صرنا بأرض لم أعرفها ولم تعرفني والشخص الوحيد الذي تعرفته كان ذلك الغريب الذي التقاني في الهور وطلب مني أن أستقبله ضيفاً على عائلتي.
كان ذلك في أواخر 1914 عندما احتل البريطانيون البصرة وهزموا الأتراك وتوجهوا لاحتلال العمارة والكوت ليصلوا إلى بغداد. ولكن الأتراك بدأوا يستعدون لاسترجاع البصرة فطلبوا من عشائرنا في الأهوار أن يحاربوا إلى جانبهم بحجة الدفاع عن أراضيهم وأهليهم فاشترك آلاف من رجال عشائرنا في الهور – ومنهم عشيرتنا- بالقتال ضد الإنجليز الذين درسوا طبيعة الأهوار وكيفية التحرك والقتال فيها فانتظروا شهراً يستعدون. صنعوا أكثر من ثلاثمائة مشحوف وزوّدوها بالأسلحة والمقاتلين وعلّموا جنودهم من الهنود والكركة كيفية قيادة المشاحيف واستعمال المردي لتحريكها بينما بدأت قذائف مدفعيتهم وطائراتهم تنهال على رجالنا في مشاحيفهم ومواقعهم تحت غطاء غابات القصب.”
إذاً هي معركة المشاحيف كما قرأت في كتاب عن دور العشائر العربية في الأهوار في صدّ المحتل البريطاني في الحرب العالمية الأولى، ففي بداية 1915 شن الإنجليز هجوماً على رجال العشائر في الأهوار- وكان يقودهم قادة أتراك- من البرّ والنهر والهور وبمساندة قصف جوي، وبالرغم من بسالة رجال العشائر واستماتتهم في الدفاع عن أرضهم إذ لم يأبهوا لقصف الطائرات التي كانت ترمي بقذائفها عشوائيا على المنطقة فإنّهم لم يستطيعوا الصمود لفترة طويلة فاستشهد معظمهم بعد انسحاب الأتراك واستسلام بعضهم للإنجليز.
“وظللت أنا في محبسي في ديار الغربة لا أعرف شيئا عن أهلي، تغير نمط حياتي، تغيرت ملابسي، تغير طعامي، تغير الهواء حولي، تغير أصدقائي، تغيرت أغنياتي، لا عرشي من القصب بقربي ولا رائحة الهور تغمرني. أفتقد كل شيء له علاقة بأهلي وبيئتي، ويشتد بي الحنين عندما أسمع صوت طرق عجينة الخبز بين يدي أمي فتفردها فتصبح قرصاً تضعه في داخل التنور وأشمّ نكهته وهي تخرجه. وعندما يستيقظ صوت الناي في ذاكرتي وروحي أجد نفسي أتبعه ولا أملك إلّا أن أتبعه حيث يأخذني إلى الهور وبيتنا الذي ينبثق منه، هكذا أخرج من بيتي في الصورة وأتبعه فأعيش برهة أنعم فيها بعودة مؤقتة إلى أرضي وأهلي.”
أشعر جيداً بما تشعرين وأنت تسمعين صوت الناي من قلب الهور. كيف لا وقد علقت نغماته في كل شيء في الهور وسِمعَه الماء والقصب والبردي والسمك والطير والجاموس والمشاحيف؟ هو الناي ذاته الذي سكن أرض سومر كلها منذ الألف الخامس قبل الميلاد .
“هل علمت الآن إلى أين كنت أخرج وأغادر مكاني، ولمَ كنت أخرج ؟” قالت تسواهن.
” لم أتوقف عن البكاء على أهلي وموطني، وعندما يضيق بي ذلك الغريب يأخذ بتقريعي وهو يكرر على مسامعي: أتبكين على ذلّكم وفقركم؟ أتبكين على بؤسكم وجهلكم؟ أنتم قوم متخلّفون لا فائدة منكم. لمَ لا تشكرين الله على أنك في الجنة ولست في جحيم موطنك وأهلك؟ جئنا لنعلّمكم ونساعدكم لا لنحتل بلادكم. وكنت أجيبه أننا لم نطلب منهم أن يأتوا إلينا فيدمروا أرضنا ويقتلوا أبناءنا ثم يقولوا إنّهم ليسوا بمحتلين. وكيف يكون شكل الاحتلال إذاً عندما يستولون على البصرة ثم يتجهون إلينا ليعبروا من خلالنا إلى بغداد؟ ثم يقول لي: لم نقصد قتلكم ولكنّ هدفنا كان الأتراك وكان ذنب عشائركم أنّهم تحالفوا مع الأتراك فأصابهم القتل. لا فائدة من الكلام معه فهو مؤمن تماماً كما جيش بلاده أنّهم الأعلَون ونحن أدنى منهم، إذاً هم يعطون الحق لأنفسهم أن يحكموا غيرهم.”
– نعم عزيزتي، هم الغرب ونحن الشرق .
– ولمَ يعرفك الناس ب(بنت المعيدي)؟
– ربّما لأنّ الإنجليز روّجوا لهذه التسمية وقيل إن كلمة (معدان) مشتقة من كلمة (المعاداة) اي معادات عشائر الأهوار للإنجليز عندموا قدموا لاحتلال أراضينا بعد احتلالهم البصرة وهزيمتهم المحتل التركي.
– الآن فهمت حب الناس وتقديرهم لك في طول البلاد وعرضها، فأنت ابنة من استمات دفاعاً عن أرضه واستشهد من أجلها وأنت ابنة عشيرة رجالها أبَوا أن يسمحوا للمحتل أن يمر إلّا على جثثهم. الآن فهمت لمَ يحرص كل بيت على أن يكون قريباً من صورتك ويحرص على أن لا ينساك ابداً. قد لا يعرفون تفاصيل معركة المشاحيف ولكنهم حتماً تلمّسوا في صورتك جمال الوفاء لأرضك وذاك الحنين المحبوس في صدرك لها.