بكدادا وبجدادو -بغداد

إميلي بورتر

هذا الرقيم الطيني وجد في حفريات منطقة ابو حبه حول بكداده

   قبل البداية

   نشأتُ في عائلة كبيرة نسبياً مختلفة عن المعتاد عليه محلياً، عائلة متعددة الثقافات والأصول ساهم هذا التّعدّد في غنى بعض من جوانبها ووضوح التناقضات في قسم آخر، كما ساهم أحياناً في صعوبة فهم أفرادها المجتمعَ العراقي الذي يحيط بنا؛ فلكلٍّ من أفراد هذه العائلة مشاربه وتطلعاته وأحكامه وفهمه المجتمعَ  المختلف الذي تعيش وسطه أو ربما لكلٍّ رؤيته لمجريات الحياة اليومية الشائكة والمتشابكة، السهلة حتى البساطة المتناهية أحياناً والمعقَّدة الصعبة أحايين.

   قد تتناقض العائلة فيما بينها في نقاط وتلتقي في أخرى. كان هناك صراع أجيال  مقرون بتزاوج أو ضدّ ذلك بين الحضارات المتنوعة  داخل السور العائلي لكنَّ الصراع خارج تلك الأسوار تنوَّعَ  وكان أشدَّ وأقوى، فكان توخّي الحذر والقبول بالواقع الحل الأمثل للانغمار وسط تلك التنوعات المتجذرة العميقة وكان قطافها وفيراً جداً وكنت أحاصر نفسي كي لا أفقدها، وكثيراً ما كنت أشعر بغصّة لاختيار المناسب أو فهم ما تم اختياره من قبل العائلة، كنت أحياناً أتشبّث بمن يغادر من العائلة -ولو لوقت قصير- لألتقط أنفاسي لكنَّ البعد لم ينفع ولم يسهِّل عليَّ الفهم فكان لابدَّ من العودة للأصل والانغمار في الموجود لأفهم هذا المجتمع الصعب السهل الممتع والممتنع. لم أجد مأوى لأفكاري سوى اللجوء -على قدرإمكانياتي المعرفية- لسبر غور تاريخ  الحضارات والعهود التي مرت  على تشكيل  مقومات المجتمع المحيط بي ولفهمه إلى حدٍّ ما، ربَّما أستطيع -من خلال المعرفة- فهم المنطق الذي يتحكَّم  في سير الحياة. كانت الحضارات السابقة هي التي اخترتها دليلي ولتكون مداراً واسعاً يحتويني أوكنجمة سهيل تقودني  إلى سكوني ورضاي وتعينني على فهم ما يستعصي عليَّ  فتحوَّلتُ إلى عاشقة لها. غمرني شغف بتلك المتناقضات والصعوبات فلست كياناً قابلاً للتّصدُّع ولا فريسة قابلة للاصطياد بل للتجدُّد، ولكن هل عليَّ أن أفهم أم اكتفي بقبول ما قد اخترت، ما أهوى وما أعشق وأغمر في سغب العواطف؟

   في مسيرتي هذه سأعود إلى ما عرفت من الحضارات القديمة التي نبعت هنا في بلاد ما بين النّهرين وسأكون مجاملة ومقلَّة  فيما أختار لكي لا أثقل عليكم بحديث طويل عن عشقي، وسأمرُّ على أحداث عشتها منذ طفولتي لأحكي عنها وأستند فيها لا على ذاكرتي فقط لكن على ما احتفظتُ به من مدوَّنات وصور ونقاشات وما قد سجّلتُ في أوراقي في حينها وما كتبت  بنزيف عال وروح مكلومة أو بفرحة وضحكة عميقة. أرجو أن  يكون السير معي في هذه المسيرة لا كالنّظر إلى أُحفورة داخل كتلة من قطعة أثرية بل مشاركة تفاصيل حياة كما عشتها بكرم ثمارها وبقحطها وبما فيها من حقائق ونضج، وساعد على ذلك بعد الزمان والمكان.                                                                 

. ولنحكِ في هذه االسطور قليلاً عن الآثار والتاريخ وعن بغداد بالذات حيث ولدت. 

 يقول جاك ريسلر أحد الآثاريّين الذين كانوا أول من قام بالتنقيب عن الآثار في العراق: “كانت بغداد مدينة قديمة بابلية على الشاطئ الغربي من نهر دجلة” ويقول أوليري: “إنَّ بغداد مدينة عريقة في القدم كانت تعرف زمن البابليين ببجدادا”، ويقول المستشرق لسترانج: “يستدل من التنقيبات الأثرية التي قام بها (السير) رولنسون في سنة 1848، في أثناء انخفاض الماء في فصل جفاف أكثر من مستواه العادي، أنَّ هذا المكان كان موقعاً لمدينة موغلة في القدم بدليل الواجهة الواسعة المشيَّدة من الآجُرِّ البابلي والتي ما زالت تحاذي ضفة دجلة الغربية عند بغداد. وكل قطعة من الآجُرِّ مختومة باسم نبوخذ نصر وألقابه. وقد وجد منذ ذلك الوقت أيضاً اسم قريب الشبه ببغداد في الكشوف الجغرافية الآشورية في عهد سردنابالس، ولعله يشير إلى المدينة التي كانت موجودة حينذاك في الموضع الذي أصبح فيما بعد عاصمة الخلفاء العباسيين.

   لقد ورد اسم بغداد صريحاً في الألواح المكتشفة حديثاً وكذلك التي يرقى تاريخها إلى أزمنة موغلة في القدم ويعود بعضها إلى العصر البابلي، ومن أهمها وأبرزها النص الصريح الوارد في لوح (سبار) المكتشف في تل أبي حبة الذي يبعد عن شمال غربي بابل خمسين كيلو متراً، وقد ورد اسم بغداد فيه صريحاً هكذا: ” بجدادا ” ويرجع تاريخ هذا اللوح إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد أي أنَّه من زمن الملك البابلي حمورابي الذي دُوِّنت قوانينه في المسلّة المعروفة باسمه (مسلَّة قوانين حمورابي المشهورة). وورد ذكر اسم بغداد أيضاً في لوح آخر يعود تاريخه إلى الأعوام 1341 ـ 1316 قبل الميلاد مكتوب فيه “بكدادي”، وفي لوح آخر يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد ورد اسم بغداد ” بجدادو” و “بكدادو” في وثيقة تاريخية يرقى عهدها إلى سنة 728 قبل الميلاد إبّان حكم الملك الآشوري (تجلات فلا سر).

  إذن بغداد والعراق، وكلاهما جزء من الآخر ومكمّل له،  قاما منذ قيام الحضارة وتمتعت بهما الحضارات التي نبعت من أرضهما، كما أنَّهما مرّا بأيام رخيّة هنيّة وأخرى صعبة قاسية، انتعشت فيهما الحياة وأينعت أو ذبلت خلال تاريخهما الطويل، فمثلاً  في القرن السادس الهجري -أي وقت ظهور الواسطي-  كانت هناك حالة تقدم وتطور واضحة غنيّة بالنشاطات الثقافية ولم تنتج تلك النشاطات وتزدهرإلّا بالرخاء الاقتصادي والسلام المؤقت أحياناً، وإنَّ الحرية النسبية التي نجدها في لوحات الواسطي تحدثنا عن مجتمع متفتّح نسبياً يعيش بسلام مع ذاته.

  تسير السنوات والعقود وتستلم زمام الأمر سلطات جائرة تفرض قوانين جائرة فتنكمش “بغداد-العراق” و ترزح تحت جور الحكم العثماني قرابة أربعة عقود تهمّشت الروح البغدادية العراقية فيها لما عانت من انقسامات وتشرذم وارتضى أهلوها بالقليل المتوفر واحتملوا البؤس الذي خيم عليهم بضراوة وقسوة. لم تعد هناك حياة اجتماعية أو تقدُّم معرفي؛ كانت اللقمةُ الهدفَ والمنتهى ولم تعد الثقافة بصيغها وأشكالها وتنوعها ظاهرة في أي ساحة. لم تترك  لنا تلك االمرحلة تراكمات يمكن أن تكوّن خزيناً معرفياً للمستقبل نغرف منه ونطوره بل محت وأهملت كل ما كان قد سُجِّل على الطين والحجر من ثقافات بتنوعها من علوم وآداب وفنون قامت عليها حضارات أغنت الدنيا ونهلنا منها علماً ومعرفة. حكت لنا  تلك الأسطر المكتوبة على الطين كيف فكّر أهل تلك الحضارات وأنتجوا وعبدوا وعاشوا وتكاثروا وطوّروا وغيّروا الحياة البسيطة إلى عالم يحكي عن الزمن والوقت ويقدّم الخرائط والعجلة والأشرعة ويبني المعابد والبيوت وينظم الأشعار ويسطّرالملاحم بتفاصيل دقيقة، ونتيجة لتلك الممارسات والنشاطات واصل العالم التقدم والتنور.  

   وعلى الرغم من محاولات التتريك العثمانية لم تختفِ اللغة العربية بل بقيت شاخصة مسيطرة، فليس هناك من ينازع لغة مقدسة نزل بها الوحي على نبي عربي. بقيت العربية السلاحَ الوحيد بينما ضاعت الفنون الأخرى كلّها في تيه البحث عن الحياة والديمومة والاستمرار. 

  وها هي السنوات والحقب تسير وتستعر الحرب  العالمية الأولى لتقوم بقيادة الحلفاء ضد المحور فتتفكك إمبراطوريات وتتقسم إلى دول وحدود لتنهض قوميات وشعوب مستضعفة تطالب بحقها في العيش بكرامة وبالاستقلال، وهنا تولد حملة لتأسيس نظام حديث للعراق يماشي ذلك العصر فالعراق قائم منذ دهور ودهور وما تمَّ لم يكن خلق العراق بل خلق نظام يحكم العراق، ونظراً لنجاح الحلفاء وفوزهم على محور ألمانيا – تركيا  تمَّ تأسيس الحكم الملكي بموافقة الحلفاء وبدعم شديد من بريطانيا الملكية ورفض واضح من فرنسا الجمهورية.هنا في كتابي هذا سأمرُّ بإنجازات عهود العراق الحديث وتداعياتها كما رأيتُها وعشتُها. 

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply