الشباب .. حُلمُ العراقِ المُنتَظرُ 

طالب عبد العزيز 

(الصورة لشباب البصرة يغسلون شط العرب، عن وكالة آشور، نيسان/ابريل 2019 )

يعدُّ المجتمعُ العراقيُّ وبحسب المعايير المعتمدة، من طلائع الشعوب الفتيّة، إذ تمثل نسبة الشباب فيه بحدود الـــ 20% وهذه نسبة كبيرة، بالقياس الى مجموع السكان البالغ عددهم 40 مليون انسان، لكنَّ المشكلة الكبرى تكمن في أنَّ نسبة الذين يفتقرون الى المهارات كبيرة جداً 60% بسبب السياسة الخاطئة، التي رهنت مستقبل هؤلاء بيد الغيب، وما ينتج عنه، ولم تبحث في آلية الاستفادة منهم،بوصفهم طاقة الانتاج الكبرى، في عموم مرافق الحياة والمعول عليهم في عملية البناء. 

  في العراق جيلٌ متمردٌ، لكنه غير منظم، جيلٌ مستفَزٌّ، وانفعاليٌّ لكنه سهل القِياد، لذا كان فريسة القوى والحركات الدينية، التي راهنت على عواطفه، فأخذته الى التطرف والتشدد، لا بمنطوقه الديني حسب إنما الى ما هو اجتماعي ايضاً، فكان بنا ما كان، وما زالت تجتذبه الى مشاريعها، وما زال يذهب، كيف لا، وقد تعطلت فيه آلة العقل، بعد أن استولت على قلبه، وسلبته إرادته، عبر شعارات طائفية، للها القدرة الفائقة على ملامسة وجدانه، يوم تتخللتها وعودٌ بحياة أخروية، طافحة بالرغد والنساء والحدائق الغناء، لا يعيش فيها أحدٌ خارج أبناء طائفته ومذهبه، فصدقها وتصورها حسنةً، جعلها ثمرة تضحياته، حين تعطلت فيه آلة الإنتاج المرجوة، وأهمية وجود الآخر المشترك.  

   وحتى وقت قريب كان جيلٌ عريضٌ من الشباب قد استسلم الى آفة الإغواء القاتلة تلك، حين إعتقد بأنَّ النظام الثيوقراطي ضامن لضالته الموعودة  في الحياة والآخرة، مع أنه وعلى الرغم من مضي عشرين سنة على التغيير لم يعثر على ضالته في النظام الجديد، الذي ضحى آباؤه وأشقاؤه من أجله. هناك جهات منظَّمة بشكل دقيق ظلَّ واقعاً تحت تأثير خطابها، لأنها إجتهدت في هدم كل سؤال عنده، حتى بات لا يصدّق بأنَّ كل ما تعرَّض له في حياته، من فقر وجوع وحرمان هو نتاج النظام هذا. وربما كان قد أغمض عينيه عن الحقيقة المرة تلك، أو هو رفض أيَّ مكاشفةٍ، قد تطلعه على بواطن إذلاله. هناك جملة طقوسٌ سوّقت اليه بوصفها خلاصة ما يجب أن يكون عليه، جعلته يعتقد بأنَّ كل ما في الدنيا من مال ومتع زائفٌ، ولا معنى له. الكارثة أنَّ وجوده في المنطقة (الآمنة) هذه أورثه بَلادةً في التفكير، ومارست عليه ارتكاساً لا غور له، حين اعتقدَ بأنَّ حياته(مُنتَجٌ حقيقيٌّ) إنحدر الى القرار هذا يوم بات خارج منطق العقل والسؤال، مؤمناً بما بين يديه، ومكتفياً بالدموع والانتظار.

   قد لا يمنحنا مؤشر البحث القريب صورة واضحة عن الشباب العراقي للأسباب تلك، وربما تعسَّرَ علينا استخلاص صورة أوضح للإخفاق الذي نعاني منه جميعاً، ومن الاجحاف أيضاً أنْ تكون العاطفة السلبية التي أشرناها نهايةَ القول عنه، إذ لا يمكننا إغفال التحولات الفكرية التي انتجت التشرينين، على سبيل المثال، مع أنَّ بعضهم لم يخرج عن سلطة العاطفة تلك- مع يقيننا بأنها كثيراً ما تتراجع عنده- فتتحول الى انعطافات مدمرة، وخارج نقطة توازنها تماماً، وقد لا تقف عند نقطة بعينها، فترتد سلبية على الانسان نفسه، فتدمر ذاته بالنظر لما عرف عن الشخصية العراقية من تحولات وانتقالات بين جهتي اليسار واليمين .. لذا، وهو رأي شخصي جداً، فأنا أعوّل على الانعطافات هذه، وأجعل منها قانوناً عراقياً خارج التشريع كله، ذلك لأنَّ بعضها يؤدي مادته في التغيير كما نريد ونتطلع، ولدينا أكثر من شاهد على ذلك.

  لم يكن كل الشباب الذين تجمعوا في ساحة التحرير ببغداد أو ساحات التظاهرات في المدن العراقية الاخرى من أبناء التيار الصدري- على سعة رقعته- فقد انجذب الشباب العراقي، بتعدد طوائفه، ومن مختلف انتماءاته الى هناك، وعبروا، كلُّ على طريقته ومقدرته، عن رفضهم للنظام الفاسد والمحاصصة وهدر المال، منشدين التغيير. وجد الشباب من خارج التيار في مظلة الصدريين مكاناً (آمناً) ولو كانت السلطات الامنية ضامنةً لجموع المتظاهرين لرأينا كيف يتمكن الشباب هؤلاء من احداث التغيير، وقلب الطاولة على جميع الفرقاء، ومن ثم الاتيان بالوجه الحقيقي للديمقراطية. وفي جانب آخر من المشهد أيضاً، نرى أنَّ من يتقرب ملياً من حشود الشباب الماشين الى كربلاء سيقع على صورة أخرى، خارج صورة اليقين التقليدية، وسيسمع همساً مختلفاً، وويقع على عاطفة آخرى، لا علاقة لها بالمقدس، لذا نقول بأنَّ الجيل هذا يحمل بذرة الثورة والتغيير لكنَّ ما أيسر خديعته ! 

  تمنحنا فعاليات الشباب العراقي وهم يحتفلون في دورة الالعاب الخليجية بالبصرة (الكرم والضيافة والحب والغناء والرقص..) صورة أكثر وضوحاً، فالشباب البصري وأقرانهم القادمون من مختلف المحافظات، ومن مختلف الهويات منحوا البلاد هوية كبيرة جديدة، هوية عابرة للطائفة، معلنة قيامة بلاد أخرى، تتشكل خارج أهواء زعماء الظلام، ضعفت أمامها هوية البلاد، التي رأيناها في المناسبات الدينية (زيارة الاربعين) مثالاً لذلك. صورة الشباب في ملعبي جذع النخلة والميناء وعلى كورنيش شط العرب تقدمت بأكثر من حلٍّ لأزمات العراق، بل وأعادت الثقة لنا بأنَّ البلاد هذه لا تحكم بالغيب والكذب والهرطقات إنما تحكم بالحب والعقل والفضاء الحر الذي يحترم الجميع ولا يقصي أحداً ويؤسس مستقبلاً مشرقاً لأبنائنا.

---------------------------------------------------------------------------------------------- *Material should not be published in another periodical before at least one year has elapsed since publication in Whispering Dialogue. *أن لا يكون النص قد تم نشره في أي صحيفة أو موقع أليكتروني على الأقل (لمدة سنة) من تاريخ النشر. *All content © 2021 Whispering Dialogue or respective authors and publishers, and may not be used elsewhere without written permission. جميع الحقوق محفوظة للناشر الرسمي لدورية (هَمْس الحِوار) Whispering Dialogue ولا يجوز إعادة النشر في أيّة دورية أخرى دون أخذ الإذن من الناشر مع الشكر الجزيل

Leave a Reply